الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خبر الخوارج هذه السنة

وفي هذه السنة خرج بهلول بن بشر الملقب كثارة ، وهو من الموصل من شيبان .

فقيل : وكان سبب خروجه أنه خرج يريد الحج ، فأمر غلامه يبتاع له خلا بدرهم ، فأتاه بخمر ، فأمره بردها وأخذ الدرهم ، فلم يجبه صاحب الخمر إلى ذلك ، فجاء بهلول إلى عامل القرية ، وهي من السواد ، فكلمه ، فقال العامل : الخمر خير منك ومن قولك . فمضى في حجه وقد عزم على الخروج ، فلقي بمكة من كان على مثل رأيه ، فاتعدوا قرية من قرى الموصل ، فاجتمعوا بها ، وهم أربعون رجلا ، وأمروا عليهم بهلولا ، وكتموا أمرهم وجعلوا لا يمرون بعامل إلا أخبروه أنهم قدموا من عند هشام على بعض الأعمال ، وأخذوا دواب البريد ، فلما انتهوا إلى القرية التي ابتاع الغلام بها الخمر قال بهلول : نبدأ بهذا العامل فنقتله . فقال أصحابه : نحن نريد قتل خالد ، فإن بدأنا بهذا شهر أمرنا وحذرنا خالد وغيره ، فنشدناك الله أن نقتل هذا فيفلت منا خالد الذي يهدم المساجد ، ويبني البيع والكنائس ، ويولي المجوس على المسلمين ، وينكح أهل الذمة المسلمات ، لعلنا نقتله فيريح الله منه . قال : والله لا أدع ما يلزمني لما بعده ، وأرجو أن أقتل هذا وخالدا ، فقتله ، فعلم بهم الناس أنهم خوارج ، وهربوا ، وخرجت البريد إلى خالد فأعلموه بهم ، ولا يدرون من رئيسهم .

فخرج خالد من واسط وأتى الحيرة ، وكان بها جند قد قدموا من الشام مددا لعامل الهند ، فأمرهم خالد بقتاله وقال : من قتل منهم رجلا أعطيته عطاء سوى ما أخذ في الشام ، وأعفيته من الخروج إلى الهند . فسارعوا إلى ذلك ، فتوجه مقدمهم ، وهو من بني القين ، ومعه ستمائة منهم ، فضم إليه خالد مائتين من الشرط ، فالتقوا على الفرات ، فقال القيني لمن معه من الشرط : لا تكونوا معنا ليكون الظفر له ولأصحابه . وخرج إليهم فحمل على القيني فأنفذه ، وانهزم أهل الشام والشرط ، وتبعهم بهلول وأصحابه يقتلونهم حتى بلغوا الكوفة .

[ ص: 241 ] فأما أهل الشام فكانوا على خيل جياد ففاتوه ، وأما شرط الكوفة فأدركهم ، فقالوا : اتق الله فينا فإنا مكرهون مقهورون ، فجعل يقرع رءوسهم بالرمح ويقول : النجاء النجاء . فوجد بهلول مع القيني بدرة فأخذها .

وكان في الكوفة ستة يرون رأي بهلول ، فخرجوا إليه فقتلوا بصريفين ، فخرج بهلول ومعه البدرة قال : من قتل هؤلاء حتى أعطيه هذه البدرة ؟ فجاء قوم فقالوا : نحن قتلناهم ، وهم يظنونه من عند خالد ، فقال بهلول لأهل القرية : أصدق هؤلاء ؟ قالوا : نعم ، فقتلهم وترك أهل القرية .

وبلغت الهزيمة خالدا وما فعل بصريفين ، فوجه إليه قائدا من شيبان أحد بني حوشب بن يزيد بن رويم ، فلقيه فيما بين الموصل والكوفة ، فانهزم أهل الكوفة فأتوا خالدا . فارتحل بهلول من يومه يريد الموصل ، فكتب عامل الموصل إلى هشام بن عبد الملك يخبره بهم ويسأله جندا ، فكتب إليه هشام : وجه إليه كثارة بن بشر . وكان هشام لا يعرف بهلولا إلا بلقبه ، فكتب إليه العامل أن الخارج هو كثارة . ثم قال بهلول لأصحابه : إنا والله ما نصنع بابن النصرانية شيئا ، يعني خالدا ، فلم لا نطلب الرأس الذي سلط خالدا ؟ فسار يريد هشاما بالشام ، فخاف عمال هشام من هشام إن تركوه يجوز إلى بلادهم ، فسير خالد جندا من العراق ، وسير عامل الجزيرة جندا من الجزيرة ، ووجه هشام جندا من الشام ، واجتمعوا بدير بين الجزيرة والموصل ، وأقبل بهلول إليهم ، وقيل التقوا بكحيل دون الموصل ، فنزل بهلول على باب الدير وهو في سبعين وحمل عليهم فقتل منهم نفرا وقاتلهم عامة نهاره ، وكانوا عشرين ألفا ، فأكثر فيهم القتل والجراح ، ثم إن بهلولا وأصحابه عقروا دوابهم وترجلوا فقاتلوا قتالا شديدا ، فقتل كثير من أصحاب بهلول ، فطعن بهلول فصرع ، فقال له أصحابه : ول أمرنا . فقال : إن هلكت فأمير المؤمنين دعامة الشيباني ، وإن هلك فأمروا اليشكري . ومات بهلول من ليلته ، فلما أصبحوا هرب دعامة وخلاهم . فقال الضحاك بن قيس يرثي بهلولا :

بدلت بعد أبي بشر وصحبته قوما علي مع الأحزاب أعوانا     كأنهم لم يكونوا من صحابتنا
ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا     يا عين أذري دموعا منك تهتانا
وابكي لنا صحبة بانوا وإخوانا     خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها
وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا



فلما قتل بهلول خرج عمرو اليشكري فلم يلبث أن قتل .

[ ص: 242 ] وخرج البختري صاحب الأشهب ، وبهذا كان يعرف ، على خالد في ستين ، فوجه إليه خالد السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف ، فالتقوا بناحية الفرات ، فانهزمت الخوارج ، فتلقاهم عبيد أهل الكوفة وسفلتهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم .

ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة في نفر ، فجعل لا يمر بقرية إلا أحرقها ، ولا يلقى أحدا إلا قتله ، وغلب على ما هنالك وعلى بيت المال ، فوجه إليه خالد جندا فقاتلوا عامة أصحابه وأثخن بالجراح ، وأتي به خالد ، وأقبل على خالد فوعظه ، فأعجب خالدا ما سمع منه فلم يقتله وحبسه عنده ، وكان يؤتى به في الليل فيحادثه . فسعي بخالد إلى هشام وقيل : أخذ حروريا قد قتل وحرق وأباح الأموال فجعله سميرا ، فغضب هشام وكتب إليه يأمره بقتله ، وكان خالد يقول : إني أنفس به عن الموت ، فأخر قتله ، فكتب إليه هشام ثانيا يذمه ويأمره بقتله وإحراقه ، فقتله وأحرقه ونفرا معه ، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات وهو يقرأ : ( قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية