الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون

استئناف ابتدائي للانتقال من إبطال تحريم ما ادعوا تحريمه من لحوم الأنعام ، إلى دعوتهم لمعرفة المحرمات ، التي علمها حق وهو أحق بأن يعلموه مما اختلقوا من افترائهم وموهوا بجدلهم ، والمناسبة لهذا الانتقال ظاهرة فالمقام مقام تعليم وإرشاد ، ولذلك ابتدئ بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بفعل القول استرعاء للأسماع كما تقدم آنفا .

[ ص: 156 ] وعقب بفعل : تعالوا اهتماما بالغرض المنتقل إليه بأنه أجدى عليهم من تلك السفاسف التي اهتموا بها على أسلوب قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآيات ، وقوله : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر الآية ، ليعلموا البون بين ما يدعون إليه قومهم وبين ما يدعوهم إليه الإسلام من جلائل الأعمال ، فيعلموا أنهم قد أضاعوا أزمانهم وأذهانهم .

وافتتاحه بطلب الحضور دليل على أن الخطاب للمشركين الذين كانوا في إعراض .

وقد تلا عليهم أحكاما كانوا جارين على خلافها مما أفسد حالهم في جاهليتهم ، وفي ذلك تسجيل عليهم بسوء أعمالهم مما يؤخذ من النهي عنها والأمر بضدها .

وقد انقسمت الأحكام التي تضمنتها هذه الجمل المتعاطفة في الآيات الثلاث المفتتحة بقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى ثلاثة أقسام : الأول : أحكام بها إصلاح الحالة الاجتماعية العامة بين الناس وهو ما افتتح بقوله : ( أن لا تشركوا به شيئا .

الثاني : ما به حفظ نظام تعامل الناس بعضهم مع بعض وهو المفتتح بقوله ولا تقربوا مال اليتيم .

الثالث : أصل كلي جامع لجميع الهدى وهو اتباع طريق الإسلام والتحرز من الخروج عنه إلى سبل الضلال وهو المفتتح بقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه .

وقد ذيل كل قسم من هذه الأقسام بالوصاية به بقوله : ( ذلكم وصاكم به ) ثلاث مرات .

[ ص: 157 ] و " تعال " فعل أمر ، أصله يؤمر به من يراد صعوده إلى مكان مرتفع فوق مكانه ، ولعل ذلك لأنهم كانوا إذا نادوا إلى أمر مهم ارتقى المنادي على ربوة ليسمع صوته ، ثم شاع إطلاق " تعال " على طلب المجيء مجازا بعلاقة الإطلاق فهو مجاز شائع صار حقيقة عرفية ، فأصله فعل أمر لا محالة من التعالي وهو تكلف الاعتلاء ثم نقل إلى طلب الإقبال مطلقا ، فقيل : هو اسم فعل أمر بمعنى اقدم ؛ لأنهم وجدوه غير متصرف في الكلام إذ لا يقال : تعاليت بمعنى قدمت ، ولا تعالى إلي فلان بمعنى جاء ، وأيا ما كان فقد لزمته علامات مناسبة لحال المخاطب به فيقال : تعالوا وتعالين ، وبذلك رجح جمهور النحاة أنه فعل أمر وليس باسم فعل ، ولأنه لو كان اسم فعل لما لحقته العلامات ، ولكان مثل : هلم وهيهات .

و ( أتل ) جواب ( تعالوا والتلاوة القراءة والسرد وحكاية اللفظ ، وقد تقدم عند قوله تعالى : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان و ( أن لا تشركوا ) تفسير للتلاوة ؛ لأنها في معنى القول .

وذكرت فيما حرم الله عليهم أشياء ليست من قبيل اللحوم إشارة إلى أن الاهتمام بالمحرمات الفواحش أولى من العكوف على دراسة أحكام الأطعمة ؛ تعريضا بصرف المشركين همتهم إلى بيان الأطعمة وتضييعهم تزكية نفوسهم وكف المفاسد عن الناس ، ونظيره قوله : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ) إلى قوله : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها الآية .

وقد ذكرت المحرمات بعضها بصيغة النهي ، وبعضها بصيغة الأمر الصريح أو المؤول ؛ لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، ونكتة الاختلاف في صيغة الطلب لهاته المعدودات سنبينها .

و ( أن ) تفسيرية لفعل أتل لأن التلاوة فيها معنى القول ، فجملة ألا تشركوا في موقع عطف بيان .

[ ص: 158 ] والابتداء بالنهي عن الإشراك ؛ لأن إصلاح الاعتقاد هو مفتاح باب الإصلاح في العاجل ، والفلاح في الآجل .

وقوله : وبالوالدين إحسانا عطف على جملة أن لا تشركوا ، و إحسانا مصدر ناب مناب فعله ؛ أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، وهو أمر بالإحسان إليهما فيفيد النهي عن ضده ، وهو الإساءة إلى الوالدين ، وبذلك الاعتبار وقع هنا في عداد ما حرم الله ؛ لأن المحرم هو الإساءة للوالدين ، وإنما عدل عن النهي عن الإساءة إلى الأمر بالإحسان اعتناء بالوالدين ؛ لأن الله أراد برهما ، والبر إحسان ، والأمر به يتضمن النهي عن الإساءة إليهما بطريق فحوى الخطاب ، وقد كان كثير من العرب في جاهليتهم أهل جلافة ، فكان كثير من العرب لا يوقرون آباءهم إذا أضعفهم الكبر ، فلذلك كثرت وصاية القرآن بالإحسان بالوالدين

وقوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق جملة عطفت على الجملة قبلها أريد به النهي عن الوأد ، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى في هذه السورة : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤكم .

و ( من ) تعليلية ، وأصلها الابتدائية ، فجعل المعلول كأنه مبتدئ من علته .

والإملاق : الفقر ، وكونه علة لقتل الأولاد يقع على وجهين ؛ أن يكون حاصلا بالفعل ، وهو المراد هنا ، وهو الذي تقتضيه ( من ) التعليلية ، وأن يكون متوقع الحصول كما قال تعالى في آية سورة الإسراء : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لأنهم كانوا يئدون بناتهم إما للعجز عن القيام بهن وإما لتوقع ذلك ، قال إسحاق بن خلف : وهو إسلامي قديم :


إذا تذكرت بنتي حين تندبني فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم     أحاذر الفقر يوما أن يلم بها
فيكشف الستر عن لحم على وضم

206 [ ص: 159 ] وقد تقدم عند قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم في هذه السورة .

وجملة نحن نرزقكم وإياهم معترضة مستأنفة ، علة للنهي عن قتلهم ؛ إبطالا لمعذرتهم ؛ لأن الفقر قد جعلوه عذرا لقتل الأولاد ، ومع كون الفقر لا يصلح أن يكون داعيا لقتل النفس ، فقد بين الله أنه لما خلق الأولاد فقد قدر رزقهم ، فمن الحماقة أن يظن الأب أن عجزه عن رزقهم يخوله قتلهم ، وكان الأجدر به أن يكتسب لهم .

وعدل عن طريق الغيبة الذي جرى عليه الكلام من قوله : ما حرم ربكم إلى طريق التكلم بضمير نرزقكم تذكيرا بالذي أمر بهذا القول كله ، حتى كأن الله أقحم كلامه بنفسه في أثناء كلام رسوله الذي أمره به ، فكلم الناس بنفسه ، وتأكيدا لتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم .

وذكر الله رزقهم مع رزق آبائهم ، وقدم رزق الآباء للإشارة إلى أنه كما رزق الآباء فلم يموتوا جوعا ، كذلك يرزق الأبناء ، على أن الفقر إنما اعترى الآباء فلم يقتل لأجله الأبناء .

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي هنا لإفادة الاختصاص ؛ أي : نحن نرزقكم وإياهم لا أنتم ترزقون أنفسكم ولا ترزقون أبناءكم ، وقد بينت آنفا أن قبائل كثيرة كانت تئد البنات ، فلذلك حذروا في هذه الآية .

وجملة ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن عطف على ما قبله ، وهو نهي عن اقتراف الآثام ، وقد نهى عن القريب منها ، وهو أبلغ في التحذير من النهي عن ملابستها ؛ لأن القرب من الشيء مظنة الوقوع فيه ، ولما لم يكن للإثم قرب وبعد كان القرب مرادا به الكناية عن ملابسة الإثم أقل ملابسة ؛ لأنه من المتعارف أن يقال ذلك في الأمور المستقرة [ ص: 160 ] في الأمكنة إذا قيل : لا تقرب منها ، فهم النهي عن القرب منها ليكون النهي عن ملابستها بالأحرى ، فلما تعذر المعنى المطابقي هنا تعينت إرادة المعنى الالتزامي بأبلغ وجه .

والفواحش : الآثام الكبيرة ، وهي المشتملة على مفاسد ، وتقدم بيانها عند قوله تعالى ( إنما يأمركم بالسوء والفحشاء ) في سورة البقرة .

وما ظهر منها ما يظهرونه ولا يستخفون به ، مثل الغضب والقذف ، وما بطن ما يستخفون به وأكثره الزنا والسرقة وكانا فاشيين في العرب .

ومن المفسرين من فسر الفواحش بالزنا ، وجعل ما ظهر منها ما يفعله سفهاؤهم في الحوانيت وديار البغايا ، وبما بطن اتخاذ الأخدان سرا ، وروي هذا عن السدي ، وروي عن الضحاك وابن عباس : كان أهل الجاهلية يرون الزنا سرا حلالا ، ويستقبحونه في العلانية ، فحرم الله الزنى في السر والعلانية ، وعندي أن صيغة الجمع في الفواحش ترجح التفسير الأول كقوله تعالى : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ولعل الذي حمل هؤلاء على تفسير الفواحش بالزنى قوله في سورة الإسراء في آيات عددت منهيات كبيرة تشابه آيات هذه السورة وهي قوله : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا وليس يلزم أن يكون المراد بالآيات المتماثلة واحدا ، وتقدم القول في ( ما ظهر وما بطن ) عند قوله تعالى : ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) في هذه السورة .

وأعقب ذلك بالنهي عن قتل النفس ، وهو من الفواحش على تفسيرها بالأعم ، تخصيصا له بالذكر ؛ لأنه فساد عظيم ، ولأنه كان متفشيا بين العرب .

والتعريف في النفس تعريف الجنس ، فيفيد الاستغراق .

[ ص: 161 ] ووصفت بـ " التي حرم الله " تأكيدا للتحريم بأنه تحريم قديم . فإن الله حرم قتل النفس من عهد آدم ، وتعليق التحريم بالنفس : هو على وجه دلالة الاقتضاء ، أي حرم الله قتلها على ما هو المعروف في تعليق التحريم والتحليل بأعيان الذوات أنه يراد تعليقه بالمعنى الذي تستعمل تلك الذات فيه كقوله " أحلت لكم بهيمة الأنعام " أي أكلها ، ويجوز أن يكون معنى : " حرم الله " جعلها الله حرما أي شيئا محترما لا يتعدى عليه ، كقوله تعالى إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها . وفي الحديث : وإني أحرم ما بين لابتيها .

وقوله إلا الحق استثناء مفرغ من عموم أحواله ملابسة القتل ، أي لا تقتلوها في أية حالة أو بأي سبب تنتحلونه إلا بسبب الحق ، فالباء للملابسة أو السببية .

والحق ضد الباطل ، هو الأمر الذي حق ، أي ثبت أنه غير باطل في حكم الشريعة ، وعند أهل العقول السليمة البريئة من هوى أو شهوة خاصة ، فيكون الأمر الذي اتفقت العقول على قبوله هو ما اتفقت عليه الشرائع ، أو الذي اصطلح أهل نزعة خاصة على أنه يحق وقوعه وهو ما اصطلحت عليه شريعة خاصة بأمة أو زمن .

فالتعريف في : الحق للجنس ، والمراد به ما يتحقق فيه ماهية الحق المتقدم شرحها ، وحيثما أطلق في الإسلام فالمراد به ماهيته في نظر الإسلام ، وقد فصل الإسلام حق قتل النفس بالقرآن والسنة ، وهو قتل المحارب والقصاص ، وهذان بنص القرآن ، وقتل المرتد عن الإسلام بعد استتابته ، وقتل الزاني المحصن ، وقتل الممتنع من أداء الصلاة بعد إنظاره حتى يخرج وقتها ، وهذه الثلاثة وردت بها أحاديث عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - ومنه القتل الناشئ عن إكراه ودفاع مأذون فيه شرعا . وذلك قتل من يقتل من البغاة وهو بنص القرآن ، وقتل من يقتل من مانعي [ ص: 162 ] الزكاة وهو بإجماع الصحابة ، وأما الجهاد فغير داخل في قوله : إلا بالحق ولكن قتل الأسير في الجهاد إذا كان لمصلحة كان حقا ، وقد فصلنا الكلام على نظير هذه الآية في سورة الإسراء .

والإشارة بقوله : ذلكم وصاكم به إلى مجموع ما ذكر ، ولذلك أفرد اسم الإشارة باعتبار المذكور ، ولو أتى بإشارة الجمع لكان ذلك فصيحا ، ومنه : كل أولئك كان عنه مسئولا .

وتقدم معنى الوصاية عند قوله : " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " آنفا .

وقوله : لعلكم تعقلون رجاء أن يعقلوا ، أي يصيروا ذوي عقول لأن ملابسة بعض المحرمات ينبئ عن خساسة عقل ، بحيث ينزل ملابسوها منزلة من لا يعقل ، فلذلك رجي أن يعقلوا .

وقوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون تذييل جعل نهاية للآية ، فأومأ إلى تنهية نوع المحرمات وهو المحرمات الراجع تحريمها إلى إصلاح الحالة الاجتماعية للأمة ، بإصلاح الاعتقاد ، وحفظ نظام العائلة والانكفاف عن المفاسد ، وحفظ النوع بترك التقاتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية