الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  187 53 - حدثنا عبد الرحمن بن يونس قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل ، عن الجعد قال : سمعت السائب بن يزيد يقول : ذهبت بي خالتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابن أختي وجع . فمسح رأسي ودعا لي بالبركة ، ثم توضأ فشربت من وضوئه ، ثم قمت خلف ظهره ، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، مثل زر الحجلة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة ، إن كان المراد من قوله ( فشربت من وضوئه ) الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة ، وإن كان المراد من فضل وضوئه فلا مطابقة ، ووقع للمستملي على رأس هذا الحديث لفظة باب بلا ترجمة . وعند الأكثرين وقع بلا فصل بينه وبين الذي قبله .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم أربعة : الأول : عبد الرحمن بن يونس أبو مسلم البغدادي المستملي أحد الحفاظ ، استملى لسفيان بن عيينة وغيره ، مات فجأة سنة أربع وعشرين ومائتين .

                                                                                                                                                                                  الثاني : حاتم بن إسماعيل الكوفي ، نزل المدينة ، ومات بها سنة ست وثمانين ومائة في خلافة هارون .

                                                                                                                                                                                  الثالث : الجعد ، بفتح الجيم وسكون العين المهملة ، ابن عبد الرحمن بن أوس المدني الكندي ، والمشهور أنه يقال له الجعيد بالتصغير .

                                                                                                                                                                                  الرابع : السائب ، اسم فاعل من السيب بالمهملة وبالياء آخر الحروف بعدها الباء الموحدة ، ابن يزيد من الزيادة ، الكندي . قال : حج بي أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وأنا ابن سبع سنين ، روي له خمسة أحاديث ، والبخاري أخرجها كلها ، توفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع ، والعنعنة ، والسماع .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن رواته ما بين بغدادي ، وكوفي ، ومدني .

                                                                                                                                                                                  ومنها : أن الرواية فيه من صغار الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره :

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن محمد بن عبيد الله ، وفي الطب عن إبراهيم بن حمزة ، وفي الدعوات عن قتيبة ، وهناد ، عن عبد الرحمن ، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل ، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم عن إسحاق بن إبراهيم ، عن الفضل بن موسى ، وأخرجه مسلم في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيبة ، ومحمد بن عباد ، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به ، وأخرجه الترمذي في المناقب ، عن قتيبة به وقال : حسن غريب من هذا الوجه ، وأخرجه النسائي في الطب ، عن قتيبة به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات :

                                                                                                                                                                                  قوله ( ذهبت به ) والفرق بينه وبين أذهبه أن معنى أذهبه أزاله وجعله ذاهبا ، ومعنى ذهب به استصحبه ومضى به معه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( وقع ) بفتح الواو وكسر القاف وبالتنوين ، وفي رواية الكشميهني وأبي ذر الهروي ( وقع ) بفتح القاف على لفظ الماضي ، وفي رواية كريمة ( وجع ) بفتح الواو وكسر الجيم ، وعليه الأكثرون ، ومعنى وقع بكسر القاف أصابه وجع في قدميه .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 78 ] وزعم ابن سيده أنه يقال : وقع الرجل والفرس وقعا فهو وقع ، إذا حفي من الحجارة والشوك وقد وقعه الحجر ، وحافر وقيع وقعته الحجارة فقصت منه ، ثم استعير للمشتكي المريض ، يبينه قولها وجع ، والعرب تسمي كل مرض وجعا .

                                                                                                                                                                                  وفي ( الجامع ) وقع الرجل يوقع ، إذا حفي من مشيه على الحجارة ، وقيل : هو أن يشتكي لحم رجليه من الحفا .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن بطال : وقع معناه أنه وقع في المرض .

                                                                                                                                                                                  وقال الجوهري : وقع أي سقط ، والوقع أيضا الحفا .

                                                                                                                                                                                  قوله ( فشربت من وضوئه ) بفتح الواو .

                                                                                                                                                                                  قوله ( إلى خاتم النبوة ) بكسر التاء ، أي فاعل الختم ، وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر ، وبفتح التاء بمعنى الطابع ، ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده .

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي البيضاوي : خاتم النبوة أثر بين كتفيه نعت به في الكتب المتقدمة ، وكان علامة يعلم بها أنه النبي الموعود ، وصيانة لنبوته ، عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( مثل زر الحجلة ) الزر بكسر الزاي وتشديد الراء ، والحجلة بفتح الحاء والجيم واحدة الحجال ، وهو بيوت تزين بالثياب والستور والأسرة ، لها عرى وأزرار .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن الأثير : الحجلة بالتحريك بيت كالقبة يستر بالثياب ، ويكون له أزرار كبار ، ويجمع على حجال ، وقيل : المراد بالحجلة الطير ، وهي التي تسمى القبجة ، وتسمى الأنثى الحجلة ، والذكر يعقوب ، وزرها بيضها ، ويؤيد هذا أن في حديث آخر مثل بيضة الحمامة ، وعن محمد بن عبد الله شيخ البخاري : الحجلة من حجل الفرس الذي بين عينيه ، وفي بعض نسخ المغاربة : الحجلة بضم الحاء المهملة ، وسكون الجيم ، قال الكرماني : وقد روي أيضا بتقديم الراء على الزاي ، ويكون المراد منه البيض ، يقال : أرزت الجرادة ، بفتح الراء وتشديد الزاي ، إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت .

                                                                                                                                                                                  وجاءت فيه روايات كثيرة ، ففي رواية مسلم عن جابر بن سمرة : ورأيت الخاتم عند كتفيه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس : ورأيت خاتم النبوة في نغض كتفه اليسرى ، كأنه جمع فيه خيلان سود كأنها الثآليل .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أحمد أيضا من حديث أبي رمثة التيمي قال : خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت برأسه ردع حناء ، ورأيت على كتفه مثل التفاحة ، فقال أبي : إني طبيب ، ألا أبطها لك ، قال : طبيبها الذي خلقها .

                                                                                                                                                                                  وفي صحيح الحاكم : شعر مجتمع . وفي كتاب البيهقي : مثل السلعة . وفي ( الشمائل ) : بضعة ناشزة . وفي حديث عمرو بن أخطب : كشيء يختم به . وفي تاريخ ابن عساكر : مثل البندقة ، وفي الترمذي : كالتفاحة . وفي الروض : كأثر المحجم الغائص على اللحم . وفي تاريخ ابن أبي خيثمة : شامة خضراء محتفرة في اللحم . وفيه أيضا : شامة سوداء تضرب إلى الصفرة ، حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس .

                                                                                                                                                                                  وفي تاريخ القضاعي : ثلاث مجتمعات ، وفي كتاب المولد لابن عابد : كان نورا يتلألأ .

                                                                                                                                                                                  وفي سيرة ابن أبي عاصم : عذرة كعذرة الحمامة . قال أبو أيوب : يعني قرطمة الحمامة .

                                                                                                                                                                                  وفي ( تاريخ نيسابور ) : مثل البندقة من لحم ، مكتوب فيه باللحم ( محمد رسول الله ) .

                                                                                                                                                                                  وعن عائشة رضي الله تعالى عنها : كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة ، وكانت مما يلي القفا ، قالت : فلمسته حين توفي ، فوجدته قد رفع .

                                                                                                                                                                                  وقيل : كركبة العنز ، أسنده أبو عمر ، عن عباد بن عمرو .

                                                                                                                                                                                  وذكر الحافظ ابن دحية في كتابه ( التنوير ) : كان الخاتم الذي بين كتفي رسول الله عليه الصلاة والسلام كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها ( الله وحده ) ، وفي ظاهرها ( توجه حيث شئت فإنك منصور ) . ثم قال : هذا حديث غريب أستنكره . قال : وقيل : كان من نور .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل كان خاتم النبوة بعد ميلاده أو ولد وهو معه ؟ قلت : قيل : ولد وهو معه .

                                                                                                                                                                                  وعن ابن عائذ في ( مغازيه ) بسنده إلى شداد بن أوس . . فذكر حديث الرضاع وشق الصدر ، وفيه : وأقبل الثالث ، يعني الملك ، وفي يده خاتم له شعاع ، فوضعه بين كتفيه وثدييه ، ووجد برده زمانا .

                                                                                                                                                                                  وفي ( الدلائل ) لأبي نعيم : أن النبي عليه الصلاة والسلام لما ولد ذكرت أمه أن الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات ، ثم أخرج صرة من حرير أبيض ، فإذا فيها خاتم ، فضرب على كتفيه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : أين كان موضعه ؟ قلت : قد روي أنه بين كتفيه ، وقيل : كان على نغض كتفه اليسرى ; لأنه يقال : إنه الموضع الذي يدخل منه الشيطان إلى باطن الإنسان ، فكان هذا عصمة له عليه الصلاة والسلام من الشيطان .

                                                                                                                                                                                  وذكر أبو عمران ميمون بن مهران ، ذكر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان منه ، فرأى جسده ممهى يرى داخله من خارجه ، ورأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة ، وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه [ ص: 79 ] يوسوس إليه ، فإذا ذكر الله تعالى العبد خنس ، ثم الحكمة في الخاتم على وجه الاعتبار أن قلبه عليه الصلاة والسلام لما ملئ حكمة وإيمانا كما في الصحيح ، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا ، فلم يجد عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم ; لأن الشيء المختوم محروس ، وكذا تدبير الله عز وجل في هذه الدنيا إذا وجد الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميين ، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما تطامن له القلب ، وبقي النور فيه ، ونفذت قوة القلب إلى الصلب ، فظهرت بين الكتفين كالبيضة ، ومن أجل ذلك برز بالصدق على أهل الموقف ، فصارت له الشفاعة من بين الرسل بالمقام المحمود ; لأن ثناء الصدق هو الذي استحقه إذ خصه ربه بما لم يخص به أحدا غيره من الأنبياء وغيرهم ، يحققه قول الله العظيم : وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم

                                                                                                                                                                                  قال أبو سعيد الخدري : وقد صدق ، هو محمد عليه السلام شفيعكم يوم القيامة . وكذا قال الحسن ، وقتادة ، وزيد بن أسلم . وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ذكره مسلم من حديث أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه : وأخرت الثالثة ليوم ترغب إلي فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي عياض : هذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين كتفيه .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : هذا باطل ; لأن شق الملكين إنما كان في صدره .

                                                                                                                                                                                  مشكلات ما وقع في هذا الباب

                                                                                                                                                                                  قوله ( في نغض كتفه اليسرى ) بضم النون وفتحها وكسر الغين المعجمة ، وفي آخره ضاد معجمة . قال ابن الأثير : النغض ، والنغض ، والناغض أعلى الكتف . وقيل : هو العظم الرقيق الذي على طرفه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( كأنه جمع ) بضم الجيم وسكون الميم ، معناه مثل جمع الكف ، وهو أن تجمع الأصابع وتضمها ، ومنه يقال : ضربه بجمع كفه ، والخيلان بكسر الخاء المعجمة وسكون الياء جمع خال .

                                                                                                                                                                                  قوله ( الثآليل ) جمع ثؤلول ، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحمصة فما دونها .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ردع حناء ) بفتح الراء وسكون الدال ، وفي آخره عين مهملة ، أي لطخ حناء ، والحناء بالكسر والتشديد وبالمد معروف ، والحناءة أخص منه .

                                                                                                                                                                                  قوله ( ألا أبطها ) من البط ، وهو شق الدمل والخراج .

                                                                                                                                                                                  قوله ( بضعة ناشزة ) البضعة بفتح الباء الموحدة القطعة من اللحم ، وناشزة بالنون والشين والزاي المعجمتين ، أي مرتفعة عن الجسم .

                                                                                                                                                                                  قوله ( محتفرة ) أي غائصة ، وأصله من حفر الأرض .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه بركة الاسترقاء .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه الدلالة على مسح رأس الصغير ، وكان مولد السائب الذي مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في السنة الثانية من الهجرة ، وشهد حجة الوداع ، وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من تبوك .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه الدلالة على طهارة الماء المستعمل ، إن كان المراد من قول السائب بن يزيد : فشربت من وضوئه - هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : هذه الأحاديث ، يعني التي في هذا الباب - ترد عليه ، أي على أبي حنيفة ; لأن النجس لا يتبرك به .

                                                                                                                                                                                  قلت : قصد هذا القائل التشنيع على أبي حنيفة بهذا الرد البعيد ; لأنه ليس في الأحاديث المذكورة ما يدل صريحا على أن المراد من فضل وضوئه هو الماء الذي تقاطر من أعضائه الشريفة ، وكذا في قوله ( كانوا يقتتلون على وضوئه ) وكذا في قول السائب ( فشربت من وضوئه ) ولئن سلمنا أن المراد هو الماء الذي يتقاطر من أعضائه الشريفة ، فأبو حنيفة ينكر هذا ، ويقول بنجاسة ذاك حاشاه منه ، وكيف يقول ذلك وهو يقول بطهارة بوله وسائر فضلاته ، ومع هذا قد قلنا : لم يصح عن أبي حنيفة تنجيس الماء المستعمل ، وفتوى الحنفية عليه ، فانقطع شغب هذا المعاند .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن المنذر : وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ ، وما قطر منه على ثيابه - دليل قوي على طهارة الماء المستعمل .

                                                                                                                                                                                  قلت : المثل : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء .

                                                                                                                                                                                  والماء الباقي على أعضاء المتوضئ لا خلاف لأحد في طهارته ; لأن من يقول بعدم طهارته إنما يقول بالانفصال عن العضو ، بل عند بعضهم بالانفصال والاستقرار في مكان ، وأما الماء الذي قطر منه على ثيابه فإنما سقط حكمه للضرورة لتعذر الاحتراز عنه .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية