الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال رحمه الله ) ولو أن لصا أكره رجلا بوعيد تلف على أن يعتق عبدا يساوي ألف درهم عن رجل بألف درهم ففعل ذلك ، وقبل المعتق عنه طائعا ، فالعبد حر عن المعتق عنه ، والولاء له ; لأن المولى لو كان طائعا في هذا الإيجاب كان العبد حرا على المعتق عنه ، فكذلك إذا كان مكرها إذ لا تأثير للإكراه في المنع من العتق ، فإن قيل : إذا كان طائعا يصير كأنه ملك العبد بألف درهم ، وأعتقه عنه ، وإن كان مكرها لا يمكن تصحيح العتق عن المعتق عنه بهذا الطريق ; لأن تمليك المكره بعوض يكون فاسدا ، والملك بالسبب الفاسد لا يثبت إلا بالقبض ، ولم يوجد [ ص: 113 ] القبض ، فكيف يعتق العبد عن المعتق عنه ؟ قلنا هذا التمليك غير مقصود بسببه ، ولكنه في ضمن العتق ، فيكون حكمه حكم العتق ، والإكراه لا يمنع صحة العتق ، فكذلك لا يمنع صحة هذا التمليك بدون القبض .

( ألا ترى ) أن التمليك إذا كان مقصودا ، فسببه لا يثبت بدون القبول ، وإذا كان في ضمن العتق يثبت بدون القبول بأن يقول : أعتق عبدك عني بألف درهم ، ويقول الآخر : أعتقت يصح بدون القبول ، والقبض في البيع الفاسد كالقبول في البيع الصحيح ، فكما سقط اعتبار القبول هناك سقط اعتبار القبض هنا على أن الإعتاق يجعل قبضا في البيع الصحيح ، فكذلك في البيع الفاسد الذي هو في ضمن العقد ، وهو نظير ما لو قال لغيره : أعتق عبدك عني على ألف درهم ، ورطل من خمر فقال : أعتقت يصير الآمر قابضا بنفوذ العتق عنه ، وإن كان البيع المندرج في كلامه فاسدا ، وقد قررنا هذا في باب الظهار من كتاب الطلاق .

فكذلك في مسألة الإكراه ، ثم رب العبد بالخيار إن شاء ضمن قيمة عبده المعتق عنه ، وإن شاء المكره ; لأن المعتق عنه قبله باختياره ، وقد تعذر عليه رده لنفوذ العتق من جهته ، فيكون ضامنا قيمته ، والمكره متلف ملكه عليه بالإكراه الملجئ ، فيكون ضامنا له قيمته ، فإن قيل : المكره إنما ألجأه إلى إزالة الملك بعوض يعدله ، وهو الألف ، فكيف يجب الضمان عليه ؟ قلنا هو أكرهه على إبطال الملك بالإعتاق ، وليس بإزائه عوض ، وإنما العوض بمقابلة التمليك الثابت بمقتضى كلامه ، والمقتضى تابع للمقتضى ، فإنما ينبني الحكم على ما هو الأصل ، وباعتبار الأصل هو متلف عليه ملكه بغير عوض ، فإن ضمن المكره قيمته رجع بها على المعتق عنه ; لأنه قائم مقام المولى حين ضمن له القيمة ، ولأن العبد قد احتبس عند المعتق عنه حين عتق على ملكه ، ويثبت الولاء له ، وكان هو المعتق بقوله طوعا ، فلا يسلم له مجانا ، وإن ضمنها المعتق عنه لم يرجع بها على المكره ; لأنه ضمن باحتباس الملك عنده ، ولو أكرهه بحبس كانت القيمة له على المعتق عنه ، ولا شيء له على المكره ; لأن الإلجاء لا يحصل بالإكراه بالحبس ، وبدونه لا يصير الإتلاف منسوبا إلى المكره ، ولو كان أكره المعتق ، والمعتق عنه بوعيد تلف حتى ، فعلا ذلك فالعبد حر عن المعتق عنه ، والولاء له ، وضمان العبد على المكره خاصة لمولى العبد ; لأن المعتق عنه ملجأ إلى القبول ، وهذا النوع من الضرورة يخرجه من أن يكون متلفا مستوجبا للضمان ، وإنما المتلف هو المكره ، فالضمان عليه خاصة بخلاف الأول ، فهناك المعتق عنه طائع في القبول فيصير به متلفا للعبد ضامنا ، فإن قيل : العبد قد احتبس عند المعتق عنه ، فإنه عتق على ملكه ، وثبت الولاء له ، وإن كان هو ملجأ في القبول ، فينبغي أن يجب عليه الضمان [ ص: 114 ] قلنا المحتبس عنده مقدار ما ثبت له من الولاء ، وذلك ليس بمتقوم .

( ألا ترى ) أن من أكره رجلا على أن يعتق عبده كان المكره ضامنا له جميع قيمته ، وإن كان الولاء ثابتا للمعتق ، فلما لم يعتبر الولاء في إسقاط حقه في الضمان ، فكذلك لا يعتبر الولاء في إيجاب الضمان عليه ، وإنما هذا بمنزلة ما لو أكره رجلا على بيع عبده من هذا بألف درهم ، ودفعه إليه ، وأكره الآخر على شرائه ، وقبضه ، وعتقه بوعيد تلف ، ففعلا ذلك ، ففي هذا الضمان يكون على المكره خاصة ، فكذلك فيما سبق ، ولو أكرههما على ذلك بالحبس ، ففعلا ضمن المعتق عنه قيمته لمولاه ; لأن المكره غير ملجأ هنا ، فلا ضمان عليه ، والإتلاف حاصل بقبول المعتق عنه ، وقد بقي مقصورا عليه حين لم يكن ملجأ إلى ذلك ، فكان ضامنا قيمته ، فإن قيل : الإكراه بالحبس يمنع صحة التزام المال بالقبول ، والمعتق عنه إنما يلتزم الضمان هنا بقوله ، وهو القبول .

قلنا لا كذلك بل هو ملتزم لصيرورته قابضا بالإعتاق متلفا ، والإكراه بالحبس لا يمنع تحقق الإتلاف منه موجبا للضمان عليه ، ولو أكرهه المولى بوعيد تلف ، وأكره الآخر بحبس حتى ، فعلا ذلك كان للمولى أن يضمن أيهما شاء قيمته ; لأن المكره ألجأ المولى إلى إتلاف ملكه ، فيكون ضامنا له قيمته ، والمعتق عنه بالقبول متلف معتق ; لأنه ما كان ملجأ إليه ، فيكون للمولى الخيار ، فأيهما اختار ضمانه لم يكن له بعد ذلك أن يضمن الآخر شيئا ، فإن ضمن المكره رجع على المعتق عنه بما ضمن ; لأنه قام مقام المولى ، ولأن المعتق عنه متلف للملك بفعل مقصور عليه ، فلا بد من إيجاب ضمان القيمة عليه ، ولو أكره المولى بالحبس ، وأكره المعتق عنه بوعيد تلف ، فالعبد حر عن المعتق عنه ، ثم المعتق بقيمته غير مدبر ; لأنه قام مقام المولى في الرجوع عليه حين ضمن له قيمته ، فإن لم يرجع المكره على المدبر عنه يضمن الذي أكرهه قيمة العبد ; لأنه ملجأ إلى القبول من جهته ، وبه تلف الملك عليه ، فكان ضامنا له قيمته ، وإذا قبضها دفعها إلى مولى العبد ; لأن القيمة قائمة مقام العين ، ولو كان العبد في يده على حاله كان عليه رده على المولى لكونه مكرها بالحبس ، فكذلك إذا وصل إليه قيمته ، ولا سبيل للمعتق على المكره ; لأنه ما كان ملجأ من جهته حين أكرهه بالحبس .

ولو أكرههما بوعيد تلف حتى دبره صاحبه عنه بألف درهم ، وقبل ذلك صاحبه فالتدبير جائز عن الذي دبره عنه لأن التدبير يوجب حق الحرية للعبد ، ومن شرطه ملك المحل بمنزلة حقيقة الحرية ، والإكراه كما لا يمنع صحة العتق لا يمنع صحة التدبير ، ثم المولى بالخيار إن شاء ضمن الذي أكرهه قيمته عبدا غير مدبر ; لأنه أتلف عليه ملكه حتى ألجأه إلى تدبيره عن [ ص: 115 ] الغير ، وفي حقه هذا ، والإلجاء إلى الإعتاق سواء ; لأن ملكه يزول في الموضعين ، وإذا ضمنه ذلك يرجع المكره على الذي دبره عنه بقيمته مدبرا ، ولا يرجع بفضل ما بين التدبير ، وغيره ; لأن النقصان الحاصل بالتدبير كان بقبوله ، ولكنه كان ملجأ إلى القبول من جهته ، فصار هذا النقصان كجميع القيمة في مسألة العتق .

وقد بينا قبل هذا نظيره في العتق أن المكره لا يرجع على المعتق عنه ، فهنا أيضا لا يرجع عليه بالنقصان ، ولكن يرجع عليه بقيمته مدبرا ; لأن العبد قد احتبس عنده بهذه الصفة ، والمدبر مال متقوم ، فلا يجوز أن يسلم له مجانا ، ولكنه يضمن قيمته لاحتباسه عنده ، وإن انعدم الصنع منه لكونه ملجأ إلى القبول كمن استولد جارية بالنكاح ، ثم ورثها مع غيره يضمن قيمة نصيب شريكه منها لاحتباسها عنده بالاستيلاد ، وإن كان لا صنع له في الميراث ، وإن شاء مولى العبد يرجع بقيمته مدبرا على الذي دبره عنه لاحتباسه عنده ، ويرجع على المكره بنقصان التدبير ; لأن ذلك الجزء قد تلف بفعل منسوب إلى المكره لوجود الإلجاء منه ، ولو كان إنما أكرههما على ذلك بالحبس ، فالعبد مدبر للذي دبره عنه يعتق بموته ، ولا ضمان على المكره ; لأن الإتلاف لم يصر منسوبا إليه بالإكراه بالحبس ، ولكن المولى يرجع بقيمة عبده تامة على المدبر عنه ; لأن ما تلف بالتدبير ، وما احتبس عنده صار كله مضمونا عليه حين لم يكن ملجأ إلى القبول ، فلهذا ضمن قيمته غير مدبر .

ولو كان أكره المولى بوعيد تلف ، وأكره الآخر بالحبس ، فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته عبدا غير مدبر ; لأنه كان ملجأ من جهته إلى إزالة ملكه ، وإن شاء ضمن المدبر عنه قيمته غير مدبر ; لأنه غير ملجأ إلى القبول ، فكان حكم الإتلاف ، والحبس مقصورا عليه ، وإن ضمن المكره رجع على المدبر عنه بعد ما اختار المولى تضمينه حتى أبرأ المولى المكره من القيمة التي ضمنها إياه ، أو وهبها له ، أو أخرها عنه شهرا ، فكان للمكره أن يرجع على المدبر عنه على حاله ; لأن المولى باختياره تضمينه يصير مملكا منه القيمة التي على المدبر عنه ، ولهذا لم يكن له أن يرجع على المدبر عنه بشيء بعد ذلك ، فإبراؤه إياه ، وتأجيله لا يسقط حق المكره في الرجوع على المدبر عنه كالوكيل بالشراء إذا أبرأ عن الثمن كان له أن يرجع على الموكل ، وهذا بخلاف الكفيل بالدين إذا أبرأ ; لأن هناك الحق لم يسقط عن الأصيل ، وهنا باختياره تضمين المكره سقط حقه عن الرجوع على المدبر عنه ، وتعين ذلك حقا للمكره ، ولو كان المولى أكره بالحبس ، وأكره الآخر بوعيد تلف حتى ، فعلا ذلك كان للمولى أن يرجع على المدبر عنه بقيمته مدبرا لاحتباس العبد عنده مدبرا [ ص: 116 ] لسبب فاسد ، ويرجع على المكره بنقصان التدبير لأن تلف هذا الجزء حصل بقبول المدبر عنه ، وهو كان ملجأ إلى ذلك ، وإن لم يكن المولى ملجأ بالإكراه بالحبس .

والأصح عندي أن الرجوع بنقصان التدبير على المكره يكون للمدبر عنه يأخذ ذلك منه ، فيدفعه إلى المكره ; لأن نقصان التدبير هنا كجميع القيمة في مسألة العتق ، وقد بينا هناك أن المعتق عنه هو الذي يستوفي القيمة ، فيدفعها إلى المكره ، وهذا ; لأن العبد دخل في ملك المدبر عنه ، ثم صار مدبرا ، والمولى كان مكرها من جهة المكره بالحبس ، وبالإكراه بالحبس لا يجب له عليه الضمان ، وإنما يجب بالإكراه بوعيد تلف ، وذلك إنما وجد بين المكره ، والمدبر عنه ، وكذلك في هذه الوجوه كلها لو أكرههما بالبيع ، والقبض ، وأكره المشتري على التدبير ، فهو في التخريج نظير ما سبق .

التالي السابق


الخدمات العلمية