الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                6015 ص: فإن قال قائل: فأنت لا تقول بهذا الحديث; لأنه يوجب الشفعة في كل شيء من حيوان وغيره، وكنت لا توجب الشفعة في الحيوان.

                                                قيل له: هذا على ما ذكرت إنما معنى "قضى بالشفعة في كل شيء" أي في الدور والعقار ، والأرضين، والدليل على ذلك ما قد روي عن ابن عباس:

                                                حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا معن بن عيسى ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لا شفعة في الحيوان".

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال: إن هذين الحديثين يدلان على أن الشفعة تجب في كل شيء، سواء كان أرضا أو حيوانا أو نحوهما، وأنتم لا توجبون الشفعة إلا في العقار، وقد تركتم العمل بهذا الحديث.

                                                وتقرير الجواب أن يقال: إن المراد من قوله: "والشفعة في كل شيء" هو الدور والعقار والأرضون; وليس المراد منه سائر الأشياء.

                                                والدليل على ذلك ما قد روي عن ابن عباس أنه قال: "لا شفعة في الحيوان".

                                                أخرجه عن أحمد بن داود المكي ، عن يعقوب بن حميد المدني شيخ ابن ماجه ، عن معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي القزاز المدني ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس .

                                                وأخرج ابن حزم هذا وقال: محمد بن عبد الرحمن مجهول.

                                                [ ص: 214 ] قلت: لعل هذا يكون محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني المشهور الثقة، فإن معن بن عيسى قد روى عنه. والله أعلم.

                                                ثم اعلم أن طائفة قد ذهبوا إلى ظاهر هذين الحديثين، وقالوا: تجب الشفعة في كل شيء من الأرضين والحيوان والثياب وغيرها.

                                                ونقل ذلك أيضا عن عطاء بن أبي رباح وعبد الله بن أبي مليكة، وهو مذهب أهل الظاهر.

                                                وقال ابن حزم في "المحلى": الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم بين اثنين فصاعدا من أي شيء كان، مما ينقسم ومما لا ينقسم من أرض، أو شجرة واحدة فأكثر، أو عبد، أو أمة، أو ثوب، أو من سيف، أو من طعام، أو من حيوان، أو أي شيء بيع لا يحل لمن له ذلك الجزء أن يبيعه حتى يعرضه على شريكه أو شركائه فيه، فإن أراد من يشركه فيه الأخذ له بما أعطاه فيه غيره، فالشريك أحق به، وإن لم يرد أن يأخذه فقد سقط حقه ولا قيام له بعد ذلك إذا باعه ممن باعه، فإن لم يعرض عليه كما ذكرنا حتى باعه من غير من يشركه، فمن يشركه مخير بين أن يمضي ذلك البيع وبين أن يبطله ويأخذ ذلك الجزء لنفسه بما بيع به.

                                                ثم قال: وقال أبو حنيفة والشافعي: لا شفعة إلا في الأرض فقط، أو في أرض بما فيها من بناء أو شجر نابت فقط، وقال مالك: الشفعة واجبة في الأرض وحدها، وفي الأرض بما فيها من بناء أو شجر نابت، أو في الثمار التي في رءوس الشجر، وإن بيعت دون الأصول.

                                                وقال أبو عمر: اختلف مالك وأصحابه في الشفعة في الثمرة إذا بيعت حفنة منها دون الأصل، فأوجب الشفعة فيها للشريك ابن وهب وابن القاسم وأشهب، ورووه عن مالك .

                                                [ ص: 215 ] وقال المغيرة وعبد الملك بن الماجشون وابن أبي حازم وابن دينار: لا شفعة فيها، ورووه أيضا عن مالك .

                                                وهو قول أكثر أهل المدينة، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وداود بن علي وأهل النظر والأثر، وهو الصحيح عندي.

                                                واختلف قول مالك وأصحابه في الشفعة في الحمام، فأوجبها بعضهم ونفاها بعضهم. وكذلك اختلف قول مالك وأصحابه أيضا في الشفعة في الكراء وفي المساقاة.

                                                وقال محمد بن عبد الحكم: لا شفعة إلا في الأرضين والخيل والأشجار، ولا شفعة في ثمرة ولا كتابة مكاتب ولا في دين، وإنما الشفعة في الأصول والأرضين خاصة، وهو قول الشافعي وجمهور العلماء، وقال: لا شفعة في عين إلا أن يكون لها بياض، ولا في بئر، ولا عرصة دار، ولا فحل نخل.

                                                وقال أصحابنا الحنفية: وشرط وجوب الشفعة أن يكون المبيع عقارا أو ما هو بمعناه، فإن كان غير ذلك فلا شفعة فيه عند عامة العلماء.

                                                وقال مالك: هذا ليس بشرط، وتجب الشفعة في السفل، ثم عندنا سواء كان العقار محتملا للقسمة أو لا يحتملها كالحمام والبئر والنهر والعين والدور القصار.

                                                وقال الشافعي: لا تجب الشفعة إلا في عقار يحتمل القسمة، وإذا بيع سفل عقار دون علوه، أو علوه دون سفله، أو بيعا جميعا - وجبت الشفعة، ولو انهدم العلو ثم بيع السفل; وجبت الشفعة لصاحب العلو عند أبي يوسف، وعند محمد: لا شفعة له. والله أعلم بالصواب.




                                                الخدمات العلمية