الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين : أحدهما : أن تكون من قبيل التعبدات . والثاني : أن تكون من قبيل العادات .

                        فأما الأول : فلا نظر فيه هاهنا .

                        وأما الثاني : وهو العادي فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها ، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات ، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها ، فكذلك العاديات ، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم ، حيث كره في سنة العقيقة مخالفة من قبله في أمر عادي ، وهو استعمال المناخل ، مع العلم بأنه معقول المعنى نظرا منه ـ والله أعلم ـ إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ، ويظهر أيضا من كلام من قال : أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل .

                        ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال : لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت . والسكنى أمر عادي بلا إشكال .

                        [ ص: 570 ] وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات ، فدخول الابتداع فيه ظاهر ، والأكثرون على خلاف هذا .

                        وعليه نبني الكلام فنقول : ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد ، لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه ؛ فهو المراد بالتعبدي ، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي ، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي ، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي ، لأن أحكامها معقولة المعنى ، ولا بد فيها من التعبد ، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها ؛ كانت اقتضاء أو تخييرا ؛ فإن التخيير في التعبدات إلزام ، كما أن الاقتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانه في كتاب " الموافقات " ـ وإذا كان كذلك - فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد ، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه ؛ صح دخوله في العاديات كالعباديات ، وإلا فلا .

                        وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ، ويتبين ذلك بالأمثلة :

                        فمما أتى به القرافي وضع المكوس في معاملات الناس ، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما ، أو في حالة ما ، لنيل حطام الدنيا ، على هئية غصب الغاصب ، وسرقة السارق ، وقطع القاطع للطريق . . . ، وما أشبه ذلك ، أو يكون على قصد وضعه على الناس ؛ كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائما ، أو في أوقات محدودة ، على كيفيات مضروبة ، بحيث تضاهي المشروع الدائم [ ص: 571 ] الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة ، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك .

                        فأما الثاني فظاهر أنه بدعة ، إذ هو تشريع زائد ، وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة ، والديات المضروبة ، والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمعتدين ، بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة ، واللوازم المحتومة ، أو ما أشبه ذلك ، فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك ، لأنه شرع مستدرك وسنن في التكليف مهيع .

                        فتصير المكوس - على هذا الفرض - لها نظران : نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ، ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف ، فاجتمع فيها نهيان : نهي عن المعصية ، ونهي عن البدعة ، وليس ذلك موجودا في البدع في القسم الأول ، وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب ، إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية ، بل نفس التشريع هو نفس الممنوع .

                        - وكذلك تقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث ، هو من قبيل ما تقدم ، فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ، ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها ، محرم في الدين ، وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب ـ وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب ـ بطريق الوراثة أو غير ذلك ، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس ؛ كالشرع الذي لا يخالف ؛ بدعة بلا إشكال ، زيادة إلى القول بالرأي غير [ ص: 572 ] الجاري على العلم ، وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله ، وهو الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :

                        حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم .

                        وأما إقامة الأئمة والقضاة وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا ، وذلك صحيح ، فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا ، وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة ، بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به ، أو يكون ذلك مما يعد خاصا بالأئمة دون غيرهم ، كما يزعم بعضهم : أن خاتم [ ص: 573 ] الذهب جائز لذوي السلطان ، أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم ، وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم .

                        ويشبهه على قرب زخرفة المساجد ، إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله ، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان ، حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله ، وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره ، أو قصد ذلك في فعله أولا بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به ، وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف ، بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرفع ـ هذا إن صح ما قال ، وإلا ، فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين ، وأحرى ألا ينبني عليه حكم .

                        - وأما مسألة المناخل فقد مر ما فيها ، والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ، ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع ، فلا نطول به .

                        وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق ، فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها ، وقد تقدم أيضا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه .

                        وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في [ ص: 574 ] العادات على ما أريد تحقيقه ، فنقول : إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة ، يمكن ردها إلى أصول هي كلها أو غالبها بدع ، وهي قلة العلم وظهور الجهل ، والشح وقبض الأمانة ، وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر ، وكون المغنم دولا ، والزكاة مغرما ، وارتفاع الأصوات في المساجد ، وتقديم الأحداث ، ولعن آخر الأمة أولها ، وخروج الدجالين ، ومفارقة الجماعة .

                        - أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفقه للدنيا ، وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم ـ حسبما جاء في الحديث الصحيح : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس إلى آخره ـ وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم ، وإلا ؛ وقع الهرج وفسد النظام ، فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية ، وهو الذي يسمونه عالما ، فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين ؛ لأن الفرض أنه جاهل ، فيضلهم عن الصراط المستقيم ؛ كما أنه ضال عنه ، وهذا عين الابتداع ، لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة . ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله ، وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله .

                        وأما الشح ؛ فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام ، وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ؛ كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار [ ص: 575 ] على النفس . ويليه أنواع القرض الجائز ، ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر ، وبالإسقاط كما قال :وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ، وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح . ثم نقص الإحسان بالوجوه الأول . فتسامح الناس بالقرض . ثم نقص ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع ؛ كالربا والسلف الذي يجر النفع ، فيجعل بيعا في الظاهر ، ويجري في الناس شرعا شائعا ، ويدين به العامة ، وينصبون هذه المعاملات متاجر ، وأصلها الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة ، فإذا كان كذلك ؛ فالحري أن يصير ذلك ابتداعا في الدين ، وأن يجعل من أشراط الساعة .

                        فإن قيل : هذا انتجاع من مكان بعيد ، وتكلف لا دليل عليه . فالجواب : أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قيل به ، فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

                        إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ، وتبايعوا بالعينة ، واتبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم .

                        ورواه أبو داود أيضا وقال فيه :

                        إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم .

                        [ ص: 576 ] فتأمل كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس ، فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال ، وهو معقول في نفسه ، فإن الرجل لا يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته ، إلا أن يكون سفيها لا عقل له .

                        ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود أيضا عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال :

                        سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ، ولم يؤمر بذلك . قال الله تعالى : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ، وينهد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ، ألا إن بيع المضطر حرام ; المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه ، إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه .

                        وهذه الأحاديث الثلاثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ مما يعضد بعضه بعضا ، وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع .

                        قال بعضهم : عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن [ ص: 577 ] عليه الموسر بالقرض إلى أن يربحه في المائة ما أحب ، فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ، ففسر بيع المضطر ببيع العينة ، وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل ـ حسبما هو مبسوط في الفقهيات ـ فقد صار الشح إذا سببا في دخول هذه المفاسد في البيوع .

                        فإن قيل : كلامنا في البدعة في فساد المعصية ، لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه .

                        فالجواب : أن مدخل البدعة هاهنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس ، فقد عده العلماء من البدع المحدثات ، حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل : من وضع هذا فهو كافر ، ومن سمع به فرضي به فهو كافر ، ومن حمله من كورة إلى كورة فهو كافر ، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر ، وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة ، حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد .

                        وقال إسحاق ابن راهويه ، عن سفيان بن عبد الملك : أن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالارتداد ، وذلك في أيام أبي غسان : فذكر شيئا . ثم قال ابن المبارك وهو مغضب : أحدثوا في الإسلام ، ومن كان أمر بهذا فهو كافر . ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر ، ثم قال ابن المبارك : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا ، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ، ولو كان يحسنها لم يجد من يمضيها فيهم ، حتى جاء هؤلاء .

                        وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالا ، وللواجب حتى يكون غير واجب . وما [ ص: 578 ] أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين ، كما أجازوا نكاح المحلل ، وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثا لمن طلقها ، وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة ، وأشباه ذلك ؛ فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح ، وأنها تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جمة .

                        وأما قبض الأمانة فعبارة عن شيوع الخيانة ، وهي من سمات أهل النفاق ، ولكن قد صار في الناس بعض أنواعها تشريعا ، وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء ، فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا ، فأخفوه لتظهر صحته ، فإن بيعه الثوب بمائة وخمسين إلى أجل ، لكنهما أظهرا وساطة الثوب ، وأنه هو المبيع والمشترى ، وليس كذلك ، بدليل الواقع .

                        وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلا بلسان حاله ومقاله : أنا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني ، ثم يهبه ، فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى ، والجميع في الحالين ، - - بل في الحولين - في تصريف المال سواء ، أليس هذا خلاف الأمانة ؟ ! والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه ، فالعمل بخلافه خيانة .

                        ومن ذلك أن بعض الناس كان يحقر الزينة ويرد من الكذب ، ومعنى الزينة التدليس بالعيوب ، وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم .

                        وأيضا فإن كثيرا من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقادا منهم أنها لهم دون المسلمين . ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك في الغنائم المأخوذة [ ص: 579 ] عنوة من الكفار ، فيجعلونها في بيت المال ، ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلا على الشريعة بالعقول . فوجه البدعة ها هنا ظاهر .

                        وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا .

                        ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولا ، وقوله :

                        سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونها ، ثم قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم .

                        وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر ، فخرج أبو داود و أحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

                        ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ـ زاد ابن ماجه ـ يعزف على رءوسهم بالمعازف والقينات ، يخسف الله بهم الأرض ، ويجعل منهم القردة والخنازير [ ص: 580 ] وخرجه البخاري ، عن أبي عامر وأبي مالك الأشعري قال فيه :

                        ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ، ولينزلن أقوام إلى جنب علم ، تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غدا ، فيبيتهم الله ويضع العلم ، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة . وفي سنن أبي داود : ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير ـ وقال في آخره ـ يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة .

                        والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره . وقوله في الحديث : ولينزلن أقوام يعني ـ والله أعلم ـ من هؤلاء المستحلين ، والمعنى إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم ، وهو الجبل ، فيواعدهم إلى الغد ، فيبيتهم الله ـ وهو أخذ العذاب ليلا ـ ويمسخ منهم آخرين ؛ كما في حديث أبي داود كما في الحديث حيث قال : يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير . وكأن الخسف هاهنا التبييت المذكور في الآخر .

                        [ ص: 581 ] وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر ، وإنما له اسم آخر ، إما النبيذ أو غيره ، وإنما الخمر عصير العنب النيء ، وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر .

                        قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم ، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته . قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت ، وليس هذا باستباحة السبت .

                        بل الذي يستحل الخمر زاعما ( أنه ) ليس خمرا مع علمه بأن معناه الخمر ومقصوده مقصود الخمر ، أفسد تأويلا من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا ، فلئن كان من القياس ما هو حق ، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل . وهو من القياس الجلي . إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم .

                        فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا ، وللرجال في بعض الأحوال ، فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه ، وأبيح منه [ ص: 582 ] الحداء وغيره ، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر ، فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون ، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء .

                        وقد خرج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع قال بعضهم : يعني العينة .

                        وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

                        أول دينكم نبوة ورحمة ، ثم ملك وجبرية ، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحرير والحر يريد استحلال الفروج الحرام ، والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج ، قالوا : ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة ، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل ، فإن هذا لم يزل معمولا في الناس ، ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالا ، والواقع كذلك ؛ فإن هذا الملك العضوض [ ص: 583 ] الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين ، في تلك الأزمان صار في أولي الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه ، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلا .

                        ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له .

                        وروى أحمد ، عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا ، كما يشعر أن العينة من الربا . وقد جاء عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ موقوفا قال : يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها ، والسحت بالهدية ، والقتل بالرهبة ، والزنا بالنكاح ، والربا بالبيع ، فإن الثلاثة المذكورة أولا قد سنت ، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر ، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وأبهة الملك ونحو ذلك ، فظاهر أيضا ، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة .

                        [ ص: 584 ] وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال : إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية .

                        ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ :

                        يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا الحديث . يدل عليه تفسير الحسن قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلا ، إلى آخره .

                        وقد وضع القتل شرعا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمي بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث ، فجعل القتل عقابا في ثمانية عشر صنفا ، ذكروا منها : الكذب ، والمداهنة ، وأخذهم أيضا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك ، وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ، ومن لم يحضر أدب ، فإن تمادى قتل ، وكل من لم يتأدب بما أدب به ضرب بالسوط المرة والمرتين ، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم عليه أو المقدم عليه قتل . وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به ، وكل من خالف أمره ، أمر الصحابة [ ص: 585 ] فعروه ، فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ . كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على الإمامة أو الخطابة ، وكذلك لبس الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حلالا ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب ، فقدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك الصلاة خلفه .

                        وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية ، قال العلماء : وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ، ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله .

                        وذكر في كتاب " الإمامة " أنه هو الإمام ، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم :

                        بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، وقال في الكتاب المذكور : جاء الله بالمهدي ، وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد ، وأن به قامت السموات والأرض ، وبه تقوم ، ولا ضد له ولا مثل ولا ند ، انتهى . وكذب ، فالمهدي عيسى عليه السلام .

                        وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح ، وبعد المغرب ، فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا : " أصبح ولله الحمد " إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغدو لكل ما يؤمرون به .

                        [ ص: 586 ] وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا ، وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات ، مع زعمه أنه قائل بالرأي . وهو التناقض بعينه . فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع .

                        وأما كون الزكاة مغرما ، فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات ، كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره ، بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت ، وكون هذا بدعة ، ظاهر .

                        وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين ، فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ، ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد ، فما ظنك به في المساجد ؟ فالجدال فيه زيادة الهوى ، فإنه غير مشروع في الأصل . فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين . وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه . كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما . وكمتشابهات القرآن . ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم [ ص: 587 ] وفي الحديث :

                        ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ، وجاء عنه عليه السلام أنه قال : لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر وعنه عليه السلام أنه قال : إن القرآن يصدق بعضه بعضا ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه ، وقال عليه السلام : اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم . فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه ، وخرج ابن وهب ، عن معاوية بن قرة قال : إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال .

                        وقال النخعي في قوله تعالى : وألقينا بينهم العداوة والبغضاء قال : الجدال والخصومات في الدين .

                        وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكئ [ ص: 588 ] على يدي ، فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء . فقال : يا أبا عبد الله ! اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك برأيي . فقال له : احذر أن أشهد عليك . قال : والله ما أريد إلا الحق ، اسمع مني فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم . قال : فإن غلبتني ؟ قال : اتبعني . قال : فإن غلبتك ؟ قال : اتبعتك . قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه ؟ قال : اتبعنا . فقال له مالك : يا عبد الله ! بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل .

                        وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل .

                        وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء .

                        والكلام في ذم الجدال كثير . فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين . ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة ، وذلك مظنة رفع الأصوات .

                        فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك ، فرفع الأصوات قد يكون في العلم ، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد ، وإن كان في العلم أو في غير العلم .

                        قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد .

                        وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر [ ص: 589 ] بتعظيمه وتوقيره .

                        والثانية : أنه مبني للصلاة ، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ، فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى .

                        وروى مالك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة . فإذا كان كذلك ، فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه ؟

                        فالجواب من وجهين :

                        أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم ، أعني : في أكثر الأمر دون الفلتات ؛ لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشئ عن الهوى في الشيء المتكلم فيه ، وأقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت ، الكلام فيما لم يؤذن فيه ، وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم .

                        وأيضا ؛ لم يكثر الكلام جدا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام ، وإلى غرضه تصوبت سهام النقد والذم ، فهو إذا هوى . وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوما يتعارون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة ، وأقبلوا [ ص: 590 ] على الكلام ، اللهم أمت عميرة ، فمات من عامه ذلك في الحج ، فرأى رجل في النوم قائلا يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ، فجاء موت عميرة هذا .

                        والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولا به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات .

                        وأما تقديم الأحداث على غيرهم ، فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم ، كان ذلك التقديم في ريب العلم أو غيره ، لأن الحدث أبدا أو في غالب الأمر غر لم يتحنك ، ولم يرتض في صناعة رياضة تبلغه مبالغ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ، ولذلك قالوا في المثل :


                        وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس



                        هذا إن حملنا على حداثة السن ، وهو نص في ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ، ويحتمله قوله : وكان زعيم القوم أرذلهم وقوله : وساد القبيلة فاسقهم وقوله : إذا أسند الأمر إلى غير أهله فالمعنى فيها واحد ، فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه .

                        ولذلك يحكى عن الشيخ أبي مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم ، فقال : الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد ، [ ص: 591 ] وإن كان ابن ثمانين سنة .

                        فإذا تقديم الأحداث على غيرهم ، من باب تقديم الجهال على غيرهم ، ولذلك قال فيهم : سفهاء الأحلام وقال : يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم إلى آخره ، وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج :

                        إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم إلى آخر الحديث ، يعني أنهم لم يتفقهوا فيه ، فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم .

                        وأما لعن آخر هذه الأمة أولها ، فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة ، فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ، حين لم يصرفوا الخلافة إلى علي ـ رضي الله عنه ـ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرت عليا ـ رضي الله عنه ـ حين لم يأخذ بحقه فيها .

                        قال مصعب الزبيري و ابن نافع : دخل هارون ( يعني الرشيد ) المسجد فركع ، ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ، ثم أتى مجلس مالك فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، ثم قال لـ مالك : هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفيء حق ؟ قال : لا ! ولا كرامة ولا مسرة ، قال : من أين قلت ذلك ؟ قال : قال الله عز وجل : ليغيظ بهم الكفار فمن عابهم فهو كافر ، ولا حق لكافر في الفيء .

                        [ ص: 592 ] واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الآيات الثلاث قال : فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه ، وأنصاره والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه ، وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير .

                        وأما بعث الدجالين ، فقد كان ذلك جملة ، منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم . ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية ، فقد حكى عنه أنه جعل المؤذن يقول : أشهد أن معدا رسول الله ، عوضا من كلمة الحق أشهد أن محمدا رسول الله فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلامهم إليه ، قال : أردد عليهم أذانهم لعنهم الله .

                        ومن يدعي لنفسه العصمة ، فهو شبه من يدعي النبوة ، ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض ، فقد جاوز دعوى النبوة ، وهو المغربي المتسمى بالمهدي .

                        وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة ، واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات ، والإخبار بالمغيبات ، ومخيلة [ ص: 593 ] لخوارق العادات ، تبعه على ذلك من العوام جملة ، ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي احتله هذا البائس ـ وهو مالقة ـ آخذا ينظر في قوله تعالى : وخاتم النبيين وهل يمكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات ، ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله .

                        ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال : حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب قال : لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس ، فقال أحد الزعرة ممن جمع السجن بينهما : اقرأ قرآنك ، لأي شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو في معنى هذا ، فتركها مثلا بلوذعيته .

                        وأما مفارقة الجماعة ، فبدعتها ظاهرة ، ولذلك يجازي مفارقتها بالميتة الجاهلية .

                        وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم .

                        فهذه أيضا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث . وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ، ككثرة النساء وقلة الرجال ، وتطاول الناس في البنيان ، وتقارب الزمان .

                        فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع ، لكن من جهة التعبد ، لا من جهة كونها عادية ، وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة ، [ ص: 594 ] والمعصية التي هي ليست ببدعة .

                        وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة ، وحصل بذلك اتفاق القولين ، وصار المذهبان مذهبا واحدا ، وبالله التوفيق .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية