الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر غزوات نصر بن سيار ما وراء النهر

وفي هذه السنة غزا نصر بن سيار ما وراء النهر مرتين ، إحداهما من نحو الباب الجديد ، فسار من بلخ من تلك الناحية ، ثم رجع إلى مرو فخطب الناس وأخبرهم أنه قد أقام منصور بن عمر بن أبي الخرقاء على كشف المظالم ، وأنه قد وضع الجزية عمن قد أسلم ، وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين .

فلم تمض جمعة حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رءوسهم ، وثمانون ألفا من المشركين كانت قد ألقيت عنهم ، فحول ما كان على المسلمين إليهم ووضعه عن المسلمين ، ثم صنف [ ص: 262 ] الخراج ووضعه مواضعه .

ثم غزا الثانية إلى ورغسر وسمرقند ثم رجع . ثم غزا الثالثة إلى الشاش من مرو ، فحال بينه وبين عبور نهر الشاش كورصول في خمسة عشر ألفا ، وكان معهم الحارث بن سريج ، وعبر كورصول في أربعين رجلا ، فبيت أهل العسكر في ليلة مظلمة ، ومع نصر بخاراخذاه في أهل بخارى ، ومعه أهل سمرقند وكش ونسف ، وهم عشرون ألفا ، فنادى نصر : ألا يخرجن أحد واثبتوا على مواضعكم . فخرج عاصم بن عمير ، وهو على جند سمرقند ، فمرت به خيل الترك ، فحمل على رجل في آخرهم فأسره ، فإذا هو ملك من ملوكهم صاحب أربعة آلاف قبة ، فأتى به إلى نصر ، فقال له نصر : من أنت ؟ قال : كورصول . فقال نصر : الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله . قال : ما ترجو من قتل شيخ ؟ وأنا أعطيك أربعة آلاف بعير من إبل الترك وألف برذون تقوي بها جندك وتطلق سبيلي . فاستشار نصر أصحابه ، فأشاروا بإطلاقه ، فسأله عن عمره ، قال : لا أدري . قال : كم غزوت ؟ قال : اثنتين وسبعين غزوة . قال : أشهدت يوم العطش ؟ قال : نعم . قال : لو أعطيتني ما طلعت عليه الشمس ما أفلت من يدي بعد ما ذكرت من مشاهدك . وقال لعاصم بن عمير السعدي : قم إلى سلبه فخذه . فقال : من أسرني ؟ قال نصر ، وهو يضحك : أسرك يزيد بن قران الحنظلي ، وأشار إليه . قال : هذا لا يستطيع أن يغسل استه ، أو لا يستطيع أن يتم له بوله فكيف يأسرني ؟ أخبرني من أسرني ؟ قال : أسرك عاصم بن عمير . قال : لست أجد ألم القتل إذا كان أسرني فارس من فرسان العرب . فقتله وصلبه على شاطئ النهر .

وعاصم بن عمير هو الهزارمرد ، قتل بنهاوند أيام قحطبة .

فلما قتل كورصول أحرقت الترك أبنيته وقطعوا آذانهم وقصوا شعورهم وأذناب خيلهم . فلما أراد نصر الرجوع أحرقه لئلا يحملوا عظامه ، فكان ذلك أشد عليهم من قتله ، وارتفع إلى فرغانة فسبى بها ألف رأس .

وكتب يوسف بن عمر إلى نصر : سر إلى هذا الغارز ذنبه في الشاش ، يعني الحارث بن سريج ، فإن أظفرك الله به وبأهل الشاش فخرب بلادهم واسب ذراريهم ، إياك وورطة المسلمين . فقرأ الكتاب على الناس واستشارهم ، فقال يحيى بن [ ص: 263 ] الحضين : ( امض لأمر أمير المؤمنين وأمر الأمير ) . فقال نصر : يا يحيى تكلمت بكلمة أيام عاصم بلغت الخليفة فحظيت بها وبلغت الدرجة الرفيعة ، فقلت أقول مثلها ، سر يا يحيى قد وليتك مقدمتي . فلام الناس يحيى ، فسار إلى الشاش ، فأتاهم الحارث فنصب عليهم عرادتين ، وأغار الأخرم ، وهو فارس الترك ، على المسلمين فقتلوه وألقوا رأسه إلى الترك ، فصاحوا وانهزموا .

وسار نصر إلى الشاش ، فتلقاه ملكها بالصلح والهدية والرهن ، واشترط عليه نصر إخراج الحارث بن سريج عن بلده ، فأخرجه إلى فاراب ، واستعمل على الشاش نيزك بن صالح مولى عمرو بن العاص ، ثم سار حتى نزل قبا من أرض فرغانة ، وكانوا أحسوا بمجيئه فأحرقوا الحشيش وقطعوا الميرة ، فوجه نصر إلى ولي [ عهد ] صاحب فرغانة فحاصره في حصن ، وغفلوا عنه فخرج وغنم دواب المسلمين ، فوجه إليهم نصر رجالا من تميم ومعهم محمد بن المثنى ، وكان المسلمون ودوابهم كمنوا لهم ، فخرجوا واستاقوا بعضها ، وخرج عليهم المسلمون فهزموهم وقتلوا الدهقان ، وأسروا منهم وأسروا ابن الدهقان فقتله نصر ، وأرسل نصر سليمان بن صول بكتاب الصلح إلى صاحب فرغانة ، فأمر به فأدخل الخزائن ليراها ثم رجع إليه ، فقال : كيف رأيت الطريق فيما بيننا وبينكم ؟ قال : سهلا كثير الماء والمراعي ، ( فكره ذلك وقال : ما علمك ؟ فقال سليمان : قد غزوت غرشستان وغور ) والختل وطبرستان فكيف لا أعلم ؟ قال : فكيف رأيت ما أعددنا ؟ قال : عدة حسنة ، ولكن أما علمت أن [ صاحب ] الحصار لا يسلم من خصال ، لا يأمن أقرب الناس إليه وأوثقهم في نفسه [ أن يثب به يطلب مرتبته ويتقرب بذلك ] ، أو يفني ما [ قد ] جمع فيسلم برمته ، أو يصيبه داء فيموت . فكره ما قال له وأمره فأحضر كتاب الصلح ، فأجاب إليه وسير أمه معه ، وكانت صاحبة أمره ، فقدمت على نصر ، فأذن لها وجعل يكلمها ، وكان مما قالت له : كل ملك لا يكون عنده ستة أشياء فليس بملك ، وزير يبث إليه ما في نفسه ويشاوره ويثق بنصيحته ، وطباخ إذا لم يشته الطعام اتخذ له ما يشتهي ، وزوجة إذا دخل عليها مغتما فنظر إلى وجهها زال غمه ، وحصن إذا فزع أتاه فأنجاه ، تعني البرذون ، وسيف إذا قاتل لا يخشى خيانته ، وذخيرة إذا حملها عاش بها أين كان من الأرض .

ثم دخل تميم بن نصر في جماعة فقالت : من هذا ؟ قالوا : هذا فتى خراسان [ ص: 264 ] تميم بن نصر . قالت : ما له نبل الكبير ولا حلاوة الصغير ، ثم دخل الحجاج بن قتيبة فقالت : من هذا ؟ فقالوا : الحجاج بن قتيبة ، فحيته وسألت عنه وقالت : يا معشر العرب ما لكم وفاء ولا يصلح بعضكم بعضا . قتيبة الذي ذلل لكم ما أرى ، وهذا ابنه تقعده دونك فحقه أن تجلسه أنت هذا المجلس وتجلس أنت مجلسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية