الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو "فلا رفث ولا فسوق " بالرفع والتنوين "ولا جدال" بالنصب ، والباقون قرءوا الكل بالنصب .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقا بمقدمتين ، الأولى : أن كل شيء له اسم ، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى ، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى ، فقولك : "رجل" يفيد الماهية المخصوصة ، وحركات هذه اللفظة ، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة ، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية ، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل ، والصفة بإزاء الصفة ، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال : رجل جدار حجر ، وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خاليا عن الحركات ، فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب ، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 140 ] المقدمة الثانية : إذا قلت : "لا رجل" بالنصب ، فقد نفيت الماهية ، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعا ، أما إذا قلت : "لا رجل" بالرفع والتنوين ، فقد نفيت رجلا منكرا مبهما ، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل ، فثبت أن قولك : "لا رجل" بالنصب أدل على عموم النفي من قولك : "لا رجل" بالرفع والتنوين .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هاتين المقدمتين ، فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول : أما الذين قرءوا "ثلاثة" بالنصب فلا إشكال ، وأما الذين قرءوا الأولين بالرفع مع التنوين ، والثالث بالنصب ؛ فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الاهتمام بنفي الرفث والفسوق ، وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة ، والجدال مشتمل على ذلك ؛ لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق ، وكثيرا ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء . فلما كان الجدال مشتملا على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي ، أما المفسرون فإنهم قالوا : من قرأ الأولين بالرفع والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكون رفث ولا فسوق ، وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال ، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية