الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( السابع )

المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة ، وعرف عظم شأنه في الدين ، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف ، دون من رمي ببدعة ، أو شهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة والكرامية ، ونحو هؤلاء مما يأتي ذكرهم عند تعداد الفرق ، لكن لما كان [ ص: 21 ] فشو البدع وظهورها بعد المائتين لما عربت الكتب العجمية كما تقدم ، وزاد البلاء ، وأظهر المأمون القول بخلق القرآن ، وظهر مذهب الاعتزال ظهورا لا مزيد عليه ; بسبب انحراف الخلفاء عن مذهب الحق ، وكان الذي قام في نحورهم ، ورد مقالتهم ، وإبطال مذهبهم وتزييفه ، وذم من ذهب إليه ، أو عول عليه ، أو انتمى إلى ذويه ، أو ناضل عنه ، أو مال إليه سيدنا وقدوتنا الإمام المبجل ، والحبر البحر المفضل ، أبا عبد الله الإمام أحمد بن محمد بن حنبل . نسب مذهب السلف إليه ، وعول أهل عصره من أهل الحق فمن بعدهم عليه ، وإلا فهو المذهب المأثور ، والحق الثابت المشهور لسائر أئمة الدين ، وأعيان الأمة المتقدمين ، قال حرب بن إسماعيل الكرماني في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه مع ما ذكر فيها من الآثار عن النبي المختار ، والصحابة الأبرار ، والتابعين الأطهار ، ومن بعدهم ، قال : هذا مذهب أئمة العلم ، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة ، المقتدى بهم فيها ، وأدركت من أدركت من علماءالعراق والحجاز والشام عليها ، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب ، أو طعن فيها ، أو عاب قائلها ، فهو مبتدع خارج عن الجماعة ، زائل عن سبيل السنة ومنهج الحق . قال : وهو مذهب الإمام أحمد وإسحاق ، وبقي بن مخلد ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، وسعيد بن منصور ، وغيرهم ممن جالسنا ، وأخذنا عنهم العلم . فذكر الكلام في الإيمان والقدر ، والوعيد والإمامة . . . إلخ كلامه كما سننبه عليه في محاله . وممن ألف في عقائد السلف ، وذكر معتقدهم في كتب التفسير المنقولة عن السلف مثل تفسير عبد الرزاق ، وتفسير الإمام أحمد ، وإسحاق ، وبقي بن مخلد ، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم ، وعبد بن حميد ، وعبد الرحمن بن أبي حاتم ، ومحمد بن جرير الطبري ، وأبي بكر بن المنذر ، وأبي بكر عبد العزيز ، وأبي الشيخ الأصفهاني ، وأبي بكر بن مردويه وغيرهم . وكذلك الكتب المصنفة في السنة والرد على الجهمية ، وأصول الدين المنقولة عن السلف ، مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري ، وكتاب خلق [ ص: 22 ] الأفعال للبخاري ، وكتاب السنة لأبي داود ، ولأبي بكر الأثرم ، ولعبد الله ابن الإمام أحمد ، ولحنبل بن إسحاق ، ولأبي بكر الخلال ، ولأبي الشيخ الأصفهاني ، ولأبي القاسم الطبراني ، ولأبي عبد الله بن منده وأمثالهم ، وكتاب الشريعة لأبي بكر الآجري ، والإبانة لأبي عبد الله ابن بطة ، وكتاب الأصول لأبي عبد الله الطلمنكي ، وكتاب رد عثمان بن سعيد الدارمي ، وكتاب الرد على الجهمية له وغير ذلك . فالأئمة الأربعة والسفيانان والحمادان وابنا أبي شيبة والليث بن سعد وابن أبي ذئب وربيعة بن أبي عبد الرحمن والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة ، وابن ماجه وابن حبان ، وأبو ثور وابن جريج ، والأوزاعي وابن الماجشون ، وابن أبي ليلى ، وأبو عبيد بن سلام ، ومسعر بن كدام الإمام ، ومحمد بن يحيى الذهلي إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة ، وأبو حاتم الرازي ، ومحمد بن نصر المروزي ، وغير هؤلاء كلهم على عقيدة واحدة سلفية أثرية ، وإن كان الاشتهار للإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - للعلة التي ذكرناها ، حتى إن الشيخ أبا حسن الأشعري قال في كتابه - الإبانة في أصول الديانة - ما نصه بحروفه : " فإن قال قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له : قولنا الذي به نقول ، وديانتنا التي بها ندين ، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ، فنحن بذلك معتصمون ، وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون ; لأنه الإمام الفاضل ، والرئيس الكامل ، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال ، وأوضح بها المنهاج ، وقمع به المبتدعين ، فرحمة الله عليه من إمام مقدم ، وكبير مفهم ، وعلى جميع أئمة المسلمين " . انتهى . فنسب المذهب إليه لاشتهاره بذلك ، مع أن سائر أئمة الدين سلكوا تلك المسالك ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية