الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى قال : ( ولا جدال في الحج ) وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلا إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير كان الاشتغال بالجدال في الحج [ ص: 143 ] ضم طاعة إلى طاعة ، فكان أولى بالترغيب فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ) [الزخرف : 58] عابهم بكونهم من أهل الجدل ، وذلك يدل على أن الجدل مذموم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) [الأنفال : 46] نهي عن المنازعة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) [النحل : 125] وبقوله تعالى حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام : ( قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ) [هود : 32] ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التوفيق بين هذه النصوص ، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال والجاه ، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذب عن دين الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة ، فقال : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) وقال : ( فمن فرض فيهن الحج ) ونهى عما هو شر ومعصية فقال : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) ثم عقب الكل بقوله : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال : وما تفعلوا من شيء يعلمه الله ، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر ، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته ؛ لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا ، فكيف في العقبى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن من المفسرين من قال في تفسير قوله : ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها ) [طه : 15] معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية ، كأنه قيل للعبد : ما تفعله من خير علمته ، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ، ومطلع عليه ، كان هذا وعدا له بالثواب العظيم ، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعدا بالعقاب الشديد ، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن جبريل عليه السلام لما قال : ما الإحسان ؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك فههنا بين للعبد أنه يراه ، ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات ؛ لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله ، كان أحرص على العمل ، وأكثر التذاذا به ، وأقل نفرة عنه .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك ، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله : ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية