الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ) في الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره فأرسل حاشرين ، وجمعوا السحرة وأمرهم بالمجيء ، واضطرب الناقلون للأخبار في عددهم [ ص: 361 ] اضطرابا متناقضا يعجب العاقل من تسطيره في الكتب ، فمن قائل تسعمائة ألف ساحر وقائل سبعين ساحرا فما بينهما من الأعداد المعينة المتناقضة ( وجاء ) قالوا : بغير حرف عطف ؛ لأنه على تقدير جواب سائل سأل ما قالوه إذ جاء قالوا ( إن لنا لأجرا ) ، أي : جعلا ، وقال الحوفي : ( وقالوا ) في موضع الحال من السحرة ، والعامل ( جاء ) ، وقرأ الحرميان وحفص ( إن ) على وجه الخبر ، واشتراط الأجر وإيجابه على تقدير الغلبة ولا يريدون مطلق الأجر ، بل المعنى لأجرا عظيما ، ولهذا قال الزمخشري : والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة ، وجوز أبو علي أن تكون ( إن ) استفهاما حذفت منه الهمزة كقراءة الباقين الذين أثبتوها وهم الأخوان ، وابن عامر ، وأبو بكر ، وأبو عمرو فمنهم من حققهما ومنهم من سهل الثانية ، ومنهم من أدخل بينهما ألفا والخلاف في كتب القراءات ، وفي خطاب السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وبما يحصل للعالم بالشيء من الترفع على من يحتاج إليه ، وعلى من لا يعلم مثل علمه و ( نحن ) إما تأكيد للضمير وإما فصل ، وجواب الشرط محذوف ، وقال الحوفي : في جوابه ما تقدم .

( قال نعم وإنكم لمن المقربين ) ، أي : نعم إن لكم لأجرا ( وإنكم ) فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد ( نعم ) التي هي نائبة عنها ، والمعنى : لمن المقربين مني ، أي : لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى ، بل أزيدكم أن تكونوا من المقربين فتحوزون إلى الأجر الكرامة والرفعة والجاه والمنزلة والمثاب ، إنما يتهنى ويغتبط به إذا حاز إلى ذلك الإكرام ، وفي مبادرة فرعون لهم بالوعد والتقريب منه دليل على شدة اضطراره لهم ، وإنهم كانوا عالمين بأنه عاجز ، ولذلك احتاج إلى السحرة في دفع موسى - عليه السلام - .

( قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ) . قال الزمخشري تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا ، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال والمتصارعين قبل أن يأخذوا في الصراع . انتهى . وقال القرطبي تأدبوا مع موسى - عليه السلام - بقولهم ( إما أن تلقي ) فكان ذلك سبب إيمانهم ، والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب ، بل ذلك من باب الإدلال لما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والابتهال بأمر موسى ، كما قال الفراء لسيبويه حين جمع الرشيد بين سيبويه والكسائي أتسأل فأجيب أم أبتدئ وتجيب ؟ فهذا جاء التخيير فيه على سبيل الإدلال بنفسه والملاءة بما عنده ، وعدم الاكتراث بمناظرته والوثوق بأنه هو الغالب ، قال الزمخشري : وقولهم ( وإما أن نكون نحن الملقين ) فيه ما يدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر وإقحام الفصل . انتهى . وأجازوا في ( أن تلقي ) وفي ( أن نكون ) النصب ، أي : اختر وافعل إما إلقاءك وإما إلقاءنا ، والمعنى فيه البداءة والدفع أي إلقاؤك مبدوء به وإما إلقاؤنا ، فيكون مبتدأ أو إما أمرك الإلقاء ، أي : البداءة به ، أو إما أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ودخلت ( أن ) ؛ لأنه لا يكون الفعل وحده مفعولا ولا مبتدأ بخلاف قوله : ( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ) فالفعل بعد ( إما ) هنا خبر ثان لقوله : ( وآخرون ) ، أو صفة فليس من مواضع أن ومفعول [ ص: 362 ] ( تلقي ) محذوف ، أي : إما أن تلقي عصاك وكذلك مفعول ( الملقين ) ، أي : الملقين العصا والحبال .

( قال ألقوا ) أعطاهم موسى - عليه السلام - التقدم وثوقا بالحق وعلما أنه تعالى يبطله كما حكى الله عنه ( قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله ) . قال الزمخشري : وقد سوغ لهم موسى - عليه السلام - ما تراغبوا فيه ازدراء لشأنهم وثقة بما كان بصدده من التأييد السماوي ، وأن المعجزة لم يغلبها سحر أبدا . انتهى . والمعنى : ألقوا حبالكم وعصيكم ، والظاهر أنه أمر بالإلقاء . وقيل : هو تهديد ، أي : فسترون ما حل بكم من الافتضاح .

( فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ) ، أي : أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى ( يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ) .

وفي قوله سحروا أعين الناس دلالة على أن السحر لا يقلب عينا ، وإنما هو من باب التخيل واسترهبوهم أي أرهبوهم ، واستفعل هنا بمعنى أفعل كأبل واستبل ، والرهبة الخوف والفزع ، وقال الزمخشري : واسترهبوهم وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم استدعوا رهبتهم انتهى . وقال ابن عطية واسترهبوهم بمعنى وأرهبوهم فكان فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس . انتهى ولا يظهر ما قالا ؛ لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستدعى والمطلوب ، والظاهر هنا حصول الرهبة فلذلك قلنا إن استفعل فيه موافق أفعل ، وصرح أبو البقاء بأن معنى ( استرهبوهم ) طلبوا منهم الرهبة ، ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي ، روي أنهم جاءوا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زئبقا وأوقدوا في الوادي نارا فحميت بالنار من تحت وبالشمس من فوق ، فتحركت وركب بعضها بعضا وهذا من باب الشعبذة والدك ، وروي غير هذا من حيلهم ، وفي الكلام حذف تقديره قال ألقوا فألقوا ، فلما ألقوا ، والفاء عاطفة على هذا المحذوف ، وقال الحوفي الفاء جواب الأمر انتهى . وهو لا يعقل ما قال ونقول وصف بعظيم لما ظهر من تأثيره في الأعضاء الظاهرة التي هي الأعين بما لحقها من تخييل العصي والحبال حيات وفي الأعضاء الباطنة التي هي القلوب بما لحقها من الفزع والخوف ولما كانت الرهبة ناشئة عن رؤية الأعين تأخرت الجملة الدالة عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية