الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) أي ( قل ) لأهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، فيما تبلغهم عن الله تعالى ( لستم على شيء ) يعتد به من أمر الدين ، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين ( حتى تقيموا التوراة والإنجيل ) فيما دعيا إليه من التوحيد الخالص ، والعمل الصالح ، وفيما بشرا به من بعثة النبي الذي يجيء من ولد إسماعيل ، الذي عبر عنه المسيح بروح الحق ، وبالبارقليط ( وما أنزل إليكم من ربكم ) على لسانه ، وهو القرآن المجيد ، فإنه هو الذي أكمل به دين الأنبياء والمرسلين ، على حسب سنته في النشوء والارتقاء بالتدريج .

                          وقيل : إن المراد بما أنزل إليهم من ربهم : ما أنزل على سائر أنبيائهم ، كما قيل مثله في آية : ( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ) وتقدم توجيهه ولم يبعد العهد به فنعيده ، إلا أن ذاك حكاية ماضية ، وهذا بيان للحال الحاضرة ، والحجة عليهم في الزمنين قائمة ; فهم لم يكونوا مقيمين لتلك الكتب قبل هذا الخطاب ، ولا في وقته ، ولا كان في استطاعتهم أن يقيموها في عهده ، كما أنهم لا يستطيعون أن يقيموها الآن ، فهذا تعجيز لهم وتفنيد لدعواهم الاستغناء عن اتباع خاتم النبيين ، باتباعهم لأنبيائهم السابقين ، ولا يتضمن الشهادة بسلامة تلك الكتب من التحريف . ومثله أن تقول الآن لدعاة النصرانية من الأمريكان والألمان والإنكليز : يا أيها الداعون لنا إلى اتباع التوراة والإنجيل ، نحن لا نعتد بكم ، ولا نرى أنكم على إيمان وثقة بدينكم ، وصدق وإخلاص في [ ص: 393 ] دعوتكم ، حتى تقيموا أنتم وأهل ملتكم التوراة والإنجيل اللذين في أيديكم ، فتحبوا أعداءكم ، وتباركوا لاعنيكم ، وتعطوا ما لقيصر لقيصر ، وتخضعوا لكل سلطة ; لأنها من الله ، وإذا اعتدى عليكم أحد فلا تعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، بل أديروا له الخد الأيسر إذا ضربكم على الخد الأيمن ، واتركوا التنافس في إعداد آلات الفتك الجهنمية ; ليكون للناس السلام في الأرض ، واخرجوا من هذه الأموال الكثيرة والثروة الواسعة ; لأن الغني لا يدخل ملكوت السماوات حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ولا تهتموا برزق الغد . . . إلخ . ونحن نراكم على نقيض كل ما جاء في هذه الكتب ; فأنتم لا تخضعون لكل حاكم ، بل ميزتم أنفسكم ، واستعليتم على الشرائع والحكام من غيركم ، وإذا اعتدي على أحد منكم في بقعة من بقاع الأرض تجردون سيوف دولتكم ، وتصوبون مدافعها على بلاد المعتدي ودولته ، لا عليه وحده ; حتى تنتقموا لأنفسكم بأضعاف ما اعتدى به عليكم ، ولا هم لأممكم ودولكم إلا امتلاك ثروة العالم وزينته ونعيمه ، وتسخير غيركم من الأمم لخدمتكم بالقوة القاهرة ، والاستعداد لسحق من ينافسكم في مجد هذا العالم الفاني ; لعدم اهتمامكم بمجد الملكوت الباقي . فنحن لا نصدق بأنكم تدينون الله بهذه الكتب التي تدعوننا إليها ، حتى تقيموها على وجهها ، فهل يعد دعاة النصرانية مثل هذا الخطاب لهم اعترافا منا بسلامة كتبهم من التحريف والزيادة والنقصان ؟ أم يفهمون أنه حجة مبنية على التسليم الجدلي لأجل الإلزام ؟ نعم ، يفهمون هذا ، ولكنهم يقولون لعوام المسلمين : إن هذه الآية شهادة للتوراة والإنجيل بالسلامة من التحريف !

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية