الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) أي وإذا سمع أولئك الذين قالوا إنا نصارى ما أنزل إلى الرسول الكامل محمد صلى الله عليه وسلم الذي أكمل به الدين ، وبعث رحمة للعالمين ، ترى أيها الناظر إليهم أعينهم تفيض من الدمع ، أي تمتلئ دمعا حتى يتدفق الدمع من جوانبها لكثرته ، أو حتى كأن الأعين ذابت وصارت دمعا جاريا ، ذلك من أجل ما منع غيرهم من العتو والاستكبار ، قوله : ( من الحق ) بيان لقوله : ( مما عرفوا ) ( وقيل : إن " من " فيه للتبعيض ، أي إن أعينهم فاضت عبرة ودموعا ، عبرة منهم وخشوعا ، لمعرفتهم بعض الحق ، إذ سمعوا بعض الآيات دون بعض ، فكيف لو عرفوا الحق كله بسماع جميع القرآن ، ومعرفة ما جاءت به السنة من الأسوة الحسنة البيان وهذا القول إنما يصح بتطبيقه على واقعة معينة كالذي يسمع في النجاشي وجماعته ، وأما ظاهر الجملة الشرطية فهو بيان ما يكون من شأنهم عند سماع القرآن ، وهو العبرة والاستعبار ، والدموع الغزار .

                          ثم بين تعالى ما يكون من مقالهم ، بعد بيان ما يكون من حالهم فقال : ( يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) أي : يقولون هذا القول يريدون به إنشاء الإيمان ، والتضرع إلى الله تعالى بأن يقبله منهم ويكتبهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الذين جعلهم الله تعالى كالرسل شهداء على الناس ، وإنما يقولون ذلك لأنهم كانوا يعلمون من كتبهم ، أو مما يتناقلونه عن سلفهم ، أن النبي الأخير الذي يكمل الله به الدين يكون متبعوه شهداء على الناس ، أو المعنى أنهم بدخولهم في هذه الأمة يكتبون من الشاهدين ، فذكر الله الأمة [ ص: 12 ] بأشرف أوصافها ، قال ابن عباس رضي الله عنه إن الشاهدين هنا هم الشهداء في قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( 2 : 143 ) وروي عنه أنه قال : هم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، أنهم شهدوا أنه قد بلغ ، وأن الرسول قال : " قد بلغت " كأنه يقول : إن الشهادة للرسل تستلزم الشهادة على من خالفهم ، وإلا كان هذا التفسير غير ظاهر; لأن الشهادة على المرء ضد الشهادة له ، والحق أن الشهادة هنا يراد بها أن هذه الأمة تشهد على الأمم يوم القيامة ، وتكون حجة على المشركين والمبطلين لكونها مظهرا للدين الحق الذي جحدوه أو ضلوا عنه ، وقد حققنا القول في بيان معنى الشهداء في تفسير ( لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) في ( ص 5ج 3ط الهيئة ) ( ومن يطع الله والرسول ) ( 4 : 69 ) في ( ص 197 ج5 ط الهيئة ) .

                          ( وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) . هذا تتمة قولهم ، والمعنى : أي مانع يمنعنا من الإيمان بالله وحده وبما جاءنا من الحق على لسان هذا الرسول ، بعد أن ظهر لنا أنه البارقليط روح الحق الذي بشر به المسيح ، والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ، والذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة ، والفضائل الكاملة ، والعبادات الخاصة ، والمعاملات المستقيمة ، وهم أتباع هذا النبي الكريم ، الذين رأينا أثر صلاحهم بأعيننا بعد ما كان فسادهم في جاهليتهم ما كان ؟ أي لا مانع من هذا الإيمان بعد تحقيق موجبه ، وقيام سببه ، فسروا القوم الصالحين بأصحاب الرسول ، وهو متعين بالنسبة إلى من آمن من نصارى الحبشة ، وكل من سار على طريقهم يعد منهم ويحشر معهم .

                          ( فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) أي فجزاهم الله تعالى وأعطاهم من الثواب بقولهم الذي عبروا به عن إيمانهم وإخلاصهم بساتين وحدائق في دار النعيم تجري من تحت أشجارها الأنهار يخلدون فيها ، فلا هي تسلب منهم ولا هم يرغبون عنها ويتركونها ، وذلك النوع من الثواب جزاء جميع المحسنين في سيرتهم وأعمالهم من أهل الإيمان ، وقد علم من الآيات الأخرى أن في تلك الجنات ، الدور والقصور والنعيم الروحاني والرضوان الإلهي ما لا يمكن أن يعبر عنه الكلام ويحيط به الوصف في هذا العالم المخالف لذلك العالم في حقيقته وخواصه ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) ( 32 : 17 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية