الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 57 ) )

لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكرهم - أيضا - بما أسبغ عليهم من النعم ، فقال : ( وظللنا عليكم الغمام ) وهو جمع غمامة ، سمي بذلك لأنه يغم السماء ، أي : يواريها ويسترها . وهو السحاب الأبيض ، ظللوا به في التيه ليقيهم حر الشمس . كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون ، قال : ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عمر ، والربيع بن أنس ، وأبي مجلز ، والضحاك ، والسدي ، نحو قول ابن عباس .

وقال الحسن وقتادة : ( وظللنا عليكم الغمام ) [ قال ] كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس .

وقال ابن جرير قال آخرون : وهو غمام أبرد من هذا ، وأطيب .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وظللنا عليكم الغمام ) قال : ليس بالسحاب ، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، ولم يكن إلا لهم .

وهكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى بن إبراهيم ، عن أبي حذيفة .

[ ص: 267 ]

وكذا رواه الثوري ، وغيره ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وكأنه يريد ، والله أعلم ، أنه ليس من زي هذا السحاب ، بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا ، كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : ( وظللنا عليكم الغمام ) قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه في قوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) [ البقرة : 210 ] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر . قال ابن عباس : وكان معهم في التيه .

وقوله : ( وأنزلنا عليكم المن ) اختلفت عبارات المفسرين في المن : ما هو ؟ فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار ، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا .

وقال مجاهد : المن : صمغة . وقال عكرمة : المن : شيء أنزله الله عليهم مثل الطل ، شبه الرب الغليظ .

وقال السدي : قالوا : يا موسى ، كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن ، فكان يسقط على شجر الزنجبيل .

وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلتهم سقوط الثلج ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك ؛ فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق ، حتى إذا كان يوم سادسه ، ليوم جمعته ، أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشيء ، وهذا كله في البرية .

وقال الربيع بن أنس : المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ثم يشربونه .

وقال وهب بن منبه - وسئل عن المن - فقال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي .

وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر وهو الشعبي ، قال : عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن .

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنه العسل .

ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت ، حيث قال :


فرأى الله أنهم بمضيع لا بذي مزرع ولا مثمورا     فسناها عليهم غاديات
وترى مزنهم خلايا وخورا     عسلا ناطفا وماء فراتا
وحليبا ذا بهجة مرمورا



[ ص: 268 ]

فالناطف : هو السائل ، والحليب المرمور : الصافي منه .

والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن ، فمنهم من فسره بالطعام ، ومنهم من فسره بالشراب ، والظاهر ، والله أعلم ، أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب ، وغير ذلك ، مما ليس لهم فيه عمل ولا كد ، فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة ، وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا ، وإن ركب مع غيره صار نوعا آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده ؛ والدليل على ذلك قول البخاري :

حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك ، عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ، به .

وأخرجه الجماعة في كتبهم ، إلا أبا داود ، من طرق عن عبد الملك ، وهو ابن عمير ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح ، ورواه البخاري ومسلم والنسائي من رواية الحكم ، عن الحسن العرني ، عن عمرو بن حريث ، به .

وقال الترمذي : حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر ومحمود بن غيلان ، قالا حدثنا سعيد بن عامر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين .

تفرد بإخراجه الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن عمرو ، وإلا من حديث سعيد بن عامر ، عنه ، وفي الباب عن سعيد بن زيد ، وأبي سعيد وجابر .

كذا قال ، وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره ، من طريق آخر ، عن أبي هريرة ، فقال : حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري ، حدثنا أسلم بن سهل ، حدثنا القاسم بن عيسى ، حدثنا طلحة بن عبد الرحمن ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وطلحة بن عبد الرحمن هذا سلمي واسطي ، يكنى بأبي محمد

[ ص: 269 ] ، وقيل : أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي : روى عن قتادة أشياء لا يتابع عليها .

ثم قال [ الترمذي ] حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة : أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : الكمأة جدري الأرض ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم .

وهذا الحديث قد رواه النسائي ، عن محمد بن بشار ، به . وعنه ، عن غندر ، عن شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي هريرة ، به . وعن محمد بن بشار ، عن عبد الأعلى ، عن خالد الحذاء ، عن شهر بن حوشب . بقصة الكمأة فقط .

وروى النسائي - أيضا - وابن ماجه من حديث محمد بن بشار ، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد ، عن مطر الوراق ، عن شهر : بقصة العجوة عند النسائي ، وبالقصتين عند ابن ماجه .

وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمعه منه ، بدليل ما رواه النسائي في الوليمة من سننه ، عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة ، وبعضهم يقول جدري الأرض ، فقال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

وروي عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن جعفر بن إياس ، عن شهر بن حوشب ، عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري ، قالا قال 1 270

رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم .

قال النسائي في الوليمة أيضا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب ، عن أبي سعيد وجابر ، رضي الله عنهما ، أن [ ص: 270 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين . ثم رواه - أيضا - ، وابن ماجه من طرق ، عن الأعمش ، عن أبي بشر ، عن شهر ، عنهما ، به .

وقد رويا - أعني النسائي وابن ماجه - من حديث سعيد بن مسلم كلاهما عن الأعمش ، عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، زاد النسائي : [ وحديث ] جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

ورواه ابن مردويه ، عن أحمد بن عثمان ، عن عباس الدوري ، عن لاحق بن صواب عن عمار بن رزيق عن الأعمش ، كابن ماجه .

وقال ابن مردويه أيضا : حدثنا أحمد بن عثمان ، حدثنا عباس الدوري ، حدثنا الحسن بن الربيع ، حدثنا أبو الأحوص ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت ، فقال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

وأخرجه النسائي ، عن عمرو بن منصور ، عن الحسن بن الربيع ثم [ رواه ] ابن مردويه . رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن سلام ، عن عبيد الله بن موسى ، عن شيبان عن الأعمش به ، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم ، عن عبيد الله بن موسى [ به ] .

وقد روى من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه كما قال ابن مردويه :

حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا حمدون بن أحمد ، حدثنا حوثرة بن أشرس ، حدثنا حماد ، عن شعيب بن الحبحاب عن أنس : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تدارؤوا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ، فقال بعضهم : نحسبه الكمأة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين ، والعجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم .

[ ص: 271 ]

وهذا الحديث محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة . وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئا من هذا ، والله أعلم .

[ وقد ] روي عن شهر ، عن ابن عباس ، كما رواه النسائي - أيضا - في الوليمة ، عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد ، عن عبد الله بن عون الخراز ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن عبد الجليل بن عطية ، عن شهر ، عن عبد الله بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الكمأة من المن ، وماؤها شفاء للعين .

فقد اختلف - كما ترى فيه - على شهر بن حوشب ، ويحتمل عندي أنه حفظه ورواه من هذه الطرق كلها ، وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم ، فإن الأسانيد إليه جيدة ، وهو لا يتعمد الكذب ، وأصل الحديث محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم من رواية سعيد بن زيد .

وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : السلوى طائر شبيه بالسمانى ، كانوا يأكلون منه .

وقال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : السلوى : طائر يشبه السمانى .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا قرة بن خالد ، عن جهضم ، عن ابن عباس ، قال : السلوى : هو السمانى .

وكذا قال مجاهد ، والشعبي ، والضحاك ، والحسن ، وعكرمة ، والربيع بن أنس ، رحمهم الله .

وعن عكرمة : أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور ، أو نحو ذلك .

وقال قتادة : السلوى من طير إلى الحمرة ، تحشرها عليهم الريح الجنوب . وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه ؛ لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه .

وقال وهب بن منبه : السلوى : طير سمين مثل الحمام ، كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت . وفي رواية عن وهب ، قال : سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام ، اللحم ، فقال الله : لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض ، فأرسل عليهم ريحا ، فأذرت عند مساكنهم السلوى ، وهو السمانى مثل ميل في ميل قيد رمح إلى السماء فخبئوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبز .

[ ص: 272 ]

وقال السدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه ، قالوا لموسى ، عليه السلام : كيف لنا بما هاهنا ؟ أين الطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على الشجر الزنجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السمانى أكبر منه ، فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله ، فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فأين الشراب ؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب ، فأين الظل ؟ فظلل عليهم الغمام . فقالوا : هذا الظل ، فأين اللباس ؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما يطول الصبيان ، ولا ينخرق لهم ثوب ، فذلك قوله تعالى : ( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ) وقوله ( وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم ) [ البقرة : 60 ] .

وروي عن وهب بن منبه ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ما قاله السدي .

وقال سنيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تخرق ولا تدرن ، قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد ، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا .

[ قال ابن عطية : السلوى : طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي في قوله : إنه العسل ، وأنشد في ذلك مستشهدا :


وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ     من السلوى إذا ما أشورها



قال : فظن أن السلوى عسلا قال القرطبي : دعوى الإجماع لا تصح ؛ لأن المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير قال : إنه العسل ، واستدل ببيت الهذلي هذا ، وذكر أنه كذلك في لغة كنانة ؛ لأنه يسلى به ومنه عين سلوان ، وقال الجوهري : السلوى العسل ، واستشهد ببيت الهذلي - أيضا - ، والسلوانة بالضم خرزة ، كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها العاشق سلا قال الشاعر :


شربت على سلوانة ماء مزنة     فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو



واسم ذلك الماء السلوان ، وقال بعضهم : السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه ( مفرج ) ، قالوا : والسلوى جمع بلفظ - الواحد - أيضا ، كما يقال : سمانى للمفرد والجمع وويلى كذلك ، وقال الخليل واحده سلواة ، وأنشد :


وإني لتعروني لذكراك هزة     كما انتفض السلواة من بلل القطر



[ ص: 273 ]

وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوي ، نقله كله القرطبي ] .

وقوله تعالى : ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) أمر إباحة وإرشاد وامتنان . وقوله : ( وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) [ البقرة : 57 ] ، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا ، كما قال : ( كلوا من رزق ربكم واشكروا له ) [ سبأ : 15 ] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم ، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات ، وخوارق العادات ، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم ، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم ، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته ، منها عام تبوك ، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد ، لم يسألوا خرق عادة ، ولا إيجاد أمر ، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم ، فجاء قدر مبرك الشاة ، فدعا [ الله ] فيه ، وأمرهم فملئوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى ، فجاءت سحابة فأمطرتهم ، فشربوا وسقوا الإبل وملئوا أسقيتهم . ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر . فهذا هو الأكمل في الاتباع : المشي مع قدر الله ، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .

( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ( 58 ) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ( 59 ) )

يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخول الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى ، عليه السلام ، فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم ، كما ذكره تعالى في سورة المائدة ؛ ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس ، كما نص على ذلك السدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، [ وأبو مسلم الأصفهاني وغير واحد وقد قال الله تعالى : ( يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) الآيات ] . [ المائدة : 21 - 24 ]

وقال آخرون : هي أريحا [ ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد ] وهذا بعيد ؛ لأنها ليست على طريقهم ، وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا [ وأبعد من ذلك قول من ذهب أنها مصر ، حكاه فخر الدين في تفسيره ، والصحيح هو الأول ؛ لأنها بيت المقدس ] . وهذا كان لما خرجوا من [ ص: 274 ] التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون ، عليه السلام ، وفتحها الله عليهم عشية جمعة ، وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح ، وأما أريحا فقرية ليست مقصودة لبني إسرائيل ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - ( سجدا ) أي : شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، ورد بلدهم إليهم وإنقاذهم من التيه والضلال .

قال العوفي في تفسيره ، عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) أي ركعا .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : ( وادخلوا الباب سجدا ) قال : ركعا من باب صغير .

رواه الحاكم من حديث سفيان ، به . ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان ، وهو الثوري ، به . وزاد : فدخلوا من قبل استاههم .

[ وقال الحسن البصري : أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم ، واستبعده الرازي ، وحكى عن بعضهم : أن المراد بالسجود هاهنا الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ] .

وقال خصيف : قال عكرمة ، قال ابن عباس : كان الباب قبل القبلة .

وقال [ ابن عباس ] ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك : هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس ، [ وحكى الرازي عن بعضهم أنه عن باب جهة من جهات القرية ] .

وقال خصيف : قال عكرمة : قال ابن عباس : فدخلوا على شق ، وقال السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن عبد الله بن مسعود : وقيل لهم ادخلوا الباب سجدا ، فدخلوا مقنعي رؤوسهم ، أي : رافعي رؤوسهم خلاف ما أمروا .

وقوله : ( وقولوا حطة ) قال الثوري عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : مغفرة ، استغفروا .

وروي عن عطاء ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، نحوه .

وقال الضحاك عن ابن عباس : ( وقولوا حطة ) قال : قولوا : هذا الأمر حق ، كما قيل لكم .

وقال عكرمة : قولوا : لا إله إلا الله .

وقال الأوزاعي : كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه يسأله عن قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) [ ص: 275 ] فكتب إليه : أن أقروا بالذنب .

وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا .

( نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ) هذا جواب الأمر ، أي : إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضاعفنا لكم الحسنات .

وحاصل الأمر : أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، والشكر على النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب لله تعالى ، كما قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [ سورة النصر ] فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح والنصر ، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها ، وأقره على ذلك عمر [ بن الخطاب ] رضي الله عنه . ولا منافاة بين أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ، ونعى إليه روحه الكريمة أيضا ؛ ولهذا كان عليه السلام يظهر عليه الخضوع جدا عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح - فتح مكة - داخلا إليها من الثنية العليا ، وإنه الخاضع لربه حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله ، يشكر الله على ذلك . ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى ، فقال بعضهم : هذه صلاة الضحى ، وقال آخرون : بل هي صلاة الفتح ، فاستحبوا للإمام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه ثماني ركعات عند أول دخوله ، كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني ركعات ، والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتين بتسليم ؛ وقيل : يصليها كلها بتسليم واحد ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) قال البخاري : حدثني محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قيل لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) فدخلوا يزحفون على استاههم ، فبدلوا وقالوا : حطة : حبة في شعرة .

ورواه النسائي ، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن مهدي به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد ، عن ابن المبارك ببعضه مسندا ، في قوله تعالى : ( حطة ) قال : فبدلوا . فقالوا : حبة .

[ ص: 276 ]

وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله لبني إسرائيل : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) فبدلوا ، ودخلوا الباب يزحفون على استاههم ، فقالوا : حبة في شعرة .

وهذا حديث صحيح ، رواه البخاري عن إسحاق بن نصر ، ومسلم عن محمد بن رافع . والترمذي عن عبد بن حميد ، كلهم عن عبد الرزاق ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقال محمد بن إسحاق : كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة ، وعمن لا أتهم ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا - يزحفون على استاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة .

وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح ، وحدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال الله لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) ثم قال أبو داود : حدثنا جعفر بن مسافر ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، مثله .

هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا .

وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن مهدي ، حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل ، أجزنا في ثنية يقال لها : ذات الحنظل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) .

وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء : ( سيقول السفهاء من الناس ) [ البقرة : 142 ] قال اليهود : قيل لهم : ادخلوا الباب سجدا ، قال : ركعا ، وقولوا : حطة : أي مغفرة ، فدخلوا على [ ص: 277 ] استاههم ، وجعلوا يقولون : حنطة حمراء فيها شعيرة ، فذلك قول الله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) .

وقال الثوري ، عن السدي ، عن أبي سعد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن ابن مسعود : ( وقولوا حطة ) فقالوا : حنطة حبة حمراء فيها شعيرة ، فأنزل الله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )

وقال أسباط ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود أنه قال : إنهم قالوا : هطي سمعاتا أزبة مزبا فهي بالعربية : حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء ، فذلك قوله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )

وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس في قوله : ( ادخلوا الباب سجدا ) ركعا من باب صغير ، فدخلوا من قبل استاههم ، وقالوا : حنطة ، فهو قوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم )

وهكذا روي عن عطاء ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ويحيى بن رافع .

وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق من الحديث أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل ، فأمروا أن يدخلوا سجدا ، فدخلوا يزحفون على استاههم من قبل استاههم رافعي رؤوسهم ، وأمروا أن يقولوا : حطة ، أي : احطط عنا ذنوبنا ، فاستهزؤوا فقالوا : حنطة في شعرة . وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ؛ ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم ، وهو خروجهم عن طاعته ؛ ولهذا قال : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )

وقال الضحاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب .

وهكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، والحسن ، وقتادة ، أنه العذاب . وقال أبو العالية : الرجز الغضب . وقال الشعبي : الرجز : إما الطاعون ، وإما البرد . وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن سعد - يعني ابن أبي وقاص - عن سعد بن مالك ، وأسامة بن زيد ، وخزيمة بن ثابت ، رضي الله عنهم ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطاعون رجز عذاب عذب به من كان [ ص: 278 ] قبلكم .

وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به . وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت : إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها الحديث .

قال ابن جرير : أخبرني يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إن هذا الوجع والسقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم . وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين ، من حديث الزهري ، ومن حديث مالك ، عن محمد بن المنكدر ، وسالم أبي النضر ، عن عامر بن سعد ، بنحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية