الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                            مواهب الجليل في شرح مختصر خليل

                                                                                                                            الحطاب - محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعينى

                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وقطعه دخول بلده ، وإن بريح ) ش ، قال ابن غازي : الدخول في هذه بالرجوع وبلده الموضع الذي تقدمت له فيه إقامة فهو أعم من وطنه بدليل الاستثناء والدخول في التي بعدها المرور ووطنه أخص من بلده والريح في هذه ألجأته لدخول الرجوع ، وفي التي بعده ألجأته لدخول المرور انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) تفسيره الدخول في الأولى بالرجوع ظاهر إذ المراد به من حين الأخذ في الرجوع لكنه أجمل فيه إذ لم يبين مبدأ الرجوع ومراد المصنف - رحمه الله تعالى - أنه إذا رجع من دون مسافة القصر فإن رجوعه يقطع حكم السفر ويتم الصلاة حينئذ في رجوعه وبعد وصوله البلد الذي خرج منه على المشهور كما تقدم في قوله ولا راجع لدونها ، ولو بشيء نسيه ، وإنما كررها المصنف لينبه على مسألة الريح التي استثناها ، وأما مسألة الريح فنص عليها اللخمي ، قال : اختلف فيمن خرج مسافرا في البحر فسار أميالا ، ثم ردته الريح فقال مالك : يتم الصلاة يريد في رجوعه ، وفي البلد الذي أقلع منه ، وإن لم يكن له وطنا إذا كان يتم الصلاة فيه ; لأنه لم يصح رفضه ، وقال سحنون : يقصر إذا لم يكن له مسكنا يريد ما لم يكن رجوعه باختياره فكان كالمكره انتهى . وتفسير ابن غازي البلد والوطن ظاهر أيضا إلا أن كلامه يوهم أن الوطن في المسألة التي استثناها أعني قوله إلا متوطن كمكة بمعنى الوطن في قوله وقطعه دخول وطنه وليس كذلك فإن التوطن في المسألة المستثناة المراد به طول الإقامة والوطن في الثانية هو المحل الذي يسكنه الشخص بنية عدم الانتقال كما ذكره في التوضيح في كتاب الحج

                                                                                                                            وأشار بقوله إلا متوطن كمكة إلى أن من سافر مسافة القصر [ ص: 148 ] ثم رجع ليقضي حاجته أو ردته الريح ، وهو عازم على السفر فإنه يقصر في رجوعه بلا خلاف ، وفي البلد الذي رجع إليه إن لم يكن وطنه ولم ينو إقامة أربعة أيام فيه على القول الذي رجع إليه مالك ، قال في المدونة : ومن دخل مكة فأقام بها بضعة عشر يوما فأوطنها ، ثم أراد أن يخرج إلى الجحفة ليعتمر ، ثم يعود إلى مكة ويقيم بها اليوم واليومين ، ثم يخرج منها فقال مالك يتم في يوميه ، ثم ، قال يقصر ، قال ابن القاسم : وهو أحب إلي ، قال ابن يونس : وجه الإتمام أنه لما أوطنها وأتم الصلاة بها صار لها حكم الوطن فكأنه رجع إلى وطنه ، ووجه قوله : " يقصر " أنها ليست وطنه في الحقيقة ، وإنما أتم بنية الفعل لما نوى الإقامة ، وأما وطنه فلا يحتاج إذا رجع إليه إلى نية الإقامة فما كان لا يتم فيه إلا بنية أضعف مما يتم فيه بغير نية ، وقد سافر من ذلك الموضع سفر قصر فإذا رجع إليه فهو على نية سفره حتى ينوي إقامة أربعة أيام أيضا ، ولو كان اعتماره من الجعرانة أو التنعيم أو ما لا يقصر فيه الصلاة ، ثم رجع إلى مكة ونوى أن يقيم بها اليوم واليومين لأتم في ذلك بلا خلاف من قوله ; لأنه على نيته الأولى في الإتمام فلا يزيلها إلا خروجه إلى سفر القصر انتهى . ونحوه اللخمي فعلم منه أن الموجب للقصر في المسألة المستثناة كونه رجع بعد أن سافر مسافة القصر ، والموجب لعدمه في المستثنى منه كونه لم يسافر مسافة القصر ، وإلا لم يكن فرق بين ما حكم به أولا في قوله " وقطعه دخول بلده " وبين ما استثناه لكن ليس في كلام المصنف ما يدل على ذلك والاستثناء منقطع ولما لم يكن الحكم بمن خرج من مكة أتى بالكاف في قوله كمكة وأشار بقوله لم تكن وطنه

                                                                                                                            وإنما أقام بها أياما فالمراد بالوطن في كلامه وكلام المدونة طول الإقامة ومهد ابن الحاجب لذلك بقوله ، فإن تقدم استيطان فرجع إليه من الطويل غيرنا وإقامة كمن أقام بمكة إلى آخر المسألة ، ومسألة المدونة مفروضة فيمن خرج ونيته العود فأحرى من سافر ، ولم تكن نيته العود ، ثم عاد بعد مسافة القصر لأمر عرض له أو ردته الريح ، وقد ذكر ابن يونس أن من ردته الريح يجري على اختلاف قولي مالك في المسألة المتقدمة والحاصل أن من رجع من دون مسافة القصر أتم الصلاة على المشهور ، ولو كان باقيا على نية السفر بأن يكون إنما رجع لحاجة أو ردته الريح ، ومقابل المشهور أنه يقصر إذا كانت نيته باقية على السفر في رجوعه ، وفي البلد الذي خرج منه إذا لم يكن وطنه ، وأن من رجع بعد أن سافر مسافة القصر يقصر على القول الراجح الذي رجع إليه مالك وعلى القول المرجوع عنه يتم ويقصر هنا على مقابل المشهور في المسألة الأولى من باب أولى ، والله أعلم .

                                                                                                                            ، وأما قول ابن غازي : إن المراد بالدخول في الثانية المرور فغير ظاهر ; لأنه يقتضي أن مطلق المرور بالوطن يقطع حكم السفر ، ولو حاذاه ، ولم يدخله وليس كذلك كما اعترض بذلك في التوضيح على ابن الحاجب ، وقال : إنما يمنع المرور بشرط دخوله أو نية دخوله لا إن اجتاز فالأحسن أن يقال مراده بالدخول في الثانية حقيقة الدخول ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( تنبيه ) تقدم في كلام اللخمي ما يقتضي أن من يرجع مكرها يقصر ، وقد صرح بذلك فقال : ولو رده غاصب لكان على القصر في رجوعه وإقامته إلا إن نوى إقامة أربعة أيام انتهى . قال في التوضيح : وانظر ما الفرق بين الغاصب والريح ونحوه لابن فرحون ، وفي كلام اللخمي إشارة إلى الفرق بينهما ، وهو أن من سافر بالريح شاكا من أول سفره هل يتم أم لا فكان قريبا ممن ينتظر صاحبا لا يسير إلا بسيره فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية