الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وعناد ، جروا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي ، وقد تقدم من كلامهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) وغير ذلك مما هو كفر ، وقال ابن عطية : [ ص: 378 ] الظاهر أنهم استحسنوا ما رأوا من آلهة أولئك القوم فأرادوا أن يكون ذلك في شرع موسى وفي جملة ما يتقرب به إلى الله تعالى ، وإلا فبعيد أن يقولوا لموسى ( اجعل لنا إلها ) نفرده بالعبادة . انتهى وفي الحديث : مروا في غزوة حنين على روح سدرة خضراء عظيمة ، فقيل : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط . وكانت ذات أنواط سرحة لبعض المشركين يعلقون بها أسلحتهم ، ولها يوم يجتمعون إليها ، فأراد قائل ذلك أن يشرع الرسول ذلك في الإسلام ، ورأى الرسول - عليه السلام - ذلك ذريعة إلى عبادة تلك السرحة فأنكره ، وقال : الله أكبر قلتم والله كما قال بنو إسرائيل .

( اجعل لنا إلها ) خالقا مدبرا ؛ لأن الذي يجعله موسى لا يمكن أن يجعله خالقا للعالم ومدبرا ، فالأقرب أنهم طلبوا أن يعين لهم تماثيل وصورا ، يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى ، وقد حكي عن عبادة الأوثان قولهم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وأجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله كفر سواء اعتقد كونه إلها للعالم ، أو أن عبادته تقرب إلى الله . انتهى . ويظهر أن ذلك لم يصدر من جميعهم فإنه كان فيهم السبعون المختارون ، ومن لا يصدر منه هذا السؤال الباطل لكنه نسب ذلك إلى بني إسرائيل لما وقع من بعضهم على عادة العرب في ذلك و " ما " في " كما " . قال الزمخشري : كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها ، وقال غيره : موصولة حرفية ، أي : كما ثبت لهم آلهة فتكون قد حذف صلتها على حد ما قال ابن مالك في أنه إذا حذفت صلة ما فلا بد من إبقاء معمولها كقولهم : لا أكلمك ما إن في السماء نجما ، أي : ما ثبت أن في السماء نجما ، ويكون آلهة فاعلا يثبت المحذوفة ، وقيل : موصولة اسمية ولهم صلتها والضمير عائد عليها مستكن في المجرور ، والتقدير : كالذي لهم وآلهة بدل من ذلك الضمير المستكن .

( قال إنكم قوم تجهلون ) تعجب موسى - عليه السلام - من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ، ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بإن ؛ لأنه لا جهل أعظم من هذه المقالة ، ولا أشنع وأتى بلفظ ( تجهلون ) ولم يقل جهلتم إشعارا بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل .

إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة الأصنام ، ومعنى متبر مهلك مدمر مكسر ، وأصله الكسر ، وقال الكلبي : مبطل ، وقال أبو اليسع : مضلل ، وقال السدي وابن زيد : مدمر رديء سيئ العاقبة وما هم فيه يعم جميع أحوالهم ، وبطل عملهم هو اضمحلاله بحيث لا ينتفع به وإن كان مقصودا به التقرب إلى الله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ، قال الزمخشري : وفي إيقاع ( هؤلاء ) اسما لـ ( إن ) وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها واسم لعباده بأنهم هم المعرضون للتبار ، وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم فيما أحبوا انتهى . ولا يتعين ما قاله من أنه قد جزم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن لأن الأحسن في [ ص: 379 ] إعراب مثل هذا أن يكون خبر إن متبرا ، وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وكذلك ( ما كانوا ) هو فاعل بقوله ( وباطل ) فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم إن بمفرد لا جملة ، وهو نظير إن زيدا مضروب غلامه ، فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعا على أنه لم يسم فاعله ، ومضروب خبر إن ، والوجه الآخر وهو أن يكون مبتدأ ومضروب خبره جائز مرجوح .

التالي السابق


الخدمات العلمية