الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن توضأ من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أو اغتسل من الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا أجزأه ما غسل من الحدث عن الجنابة ، لأن فرض الغسل في أعضاء الوضوء من الجنابة والحدث واحد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هنا مسألتان ( إحداهما ) توضأ بنية الحدث ثم ذكر أنه كان جنبا فيجزيه المغسول ، وهو وجهه ويداه ورجلاه ودليله ما ذكره المصنف .

                                      ( الثاني ) غسل جميع بدنه بنية رفع الحدث الأصغر غالطا ، فقطع المصنف بارتفاع الحدث عن أعضاء الوضوء دون غيرها ، وظاهر كلامه ارتفاعه عن جميع أعضاء الوضوء والرأس وغيره ، وكذا أطلقه جماعة بارتفاعه عن الرأس ، وآخرون بأنه لا يرتفع عنه وهذا هو الأصح لأن فرض الرأس في الوضوء المسح ، فالذي نواه إنما هو المسح فلا يجزيه عن غسل الجنابة . ولنا وجه أنه لا يجزئه ما غسله بنية الحدث عن شيء من الجنابة ، حكاه الرافعي ، وقد سبقت المسألة واضحة في باب نية الوضوء والله أعلم .



                                      [ ص: 227 ] فرع في مسائل تتعلق بالباب ( إحداها ) قال الشافعي رحمه الله في البويطي : أكره للجنب أن يغتسل في البئر معينة كانت أو دائمة ، وفي الماء الراكد الذي لا يجري . قال وسواء قليل الماء وكثيره أكره الاغتسال فيه والبول فيه . هذا نصه بحروفه . واتفق أصحابنا على كراهته كما ذكر . قال في البيان : والوضوء فيه كالغسل ويحتج للمسألة بحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " { لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقيل كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولا } " رواه مسلم .



                                      ( الثانية ) يجوز الغسل من إنزال المني قبل البول وبعده ، والأولى أن تكون بعد البول خوفا من خروج مني بعد الغسل . حكى الدارمي عن قوم أنه لا يجوز قبل البول .



                                      ( الثالثة ) السنة إذا غسل ما على فرجه من أذى أن يدلك يده بالأرض ثم يغسلها ثبت ذلك في الصحيحين عن ميمونة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق بيانه في باب الاستطابة .



                                      ( الرابعة ) لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة ، فإن كان خاليا جاز الغسل مكشوف العورة ، والستر أفضل . واحتج البخاري والبيهقي لجواز الغسل عريانا في الخلوة بحديثي أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " { أن موسى اغتسل عريانا فذهب الحجر بثوبه } { وأن أيوب كان يغتسل عريانا فخر عليه جراد من ذهب } " رواهما البخاري . وروى مسلم أيضا قصة موسى صلى الله عليه وسلم والاحتجاج به تفريع على الاحتجاج بشرع من قبلنا . واحتجوا لفضل الستر بحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال : { قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت : أرأيت إذا كان أحدنا خاليا ؟ قال الله أحق أن يستحيا من الناس } " رواه أبو داود والترمذي [ ص: 228 ] والنسائي وابن ماجه . قال الترمذي : حديث حسن هذا مذهبنا ، ونقل القاضي عياض جواز الاغتسال عريانا في الخلوة عن جماهير العلماء . قال : ونهى عنه ابن أبي ليلى لأن للماء ساكنا . واحتج فيه بحديث ضعفه العلماء .



                                      ( الخامسة ) الوضوء والمضمضة والاستنشاق سنن في الغسل ، فإن ترك الثلاثة صح غسله . قال الشافعي في المختصر : فإن ترك الوضوء والمضمضة والاستنشاق فقد أساء ويستأنف المضمضة والاستنشاق . قال القاضي حسين وغيره : سماه مسيئا لترك هذه السنن ، فإنها مؤكدة فتاركها مسيء لا محالة . قالوا : وهذه إساءة بمعنى الكراهة لا بمعنى التحريم . قال القاضي والمتولي والروياني وآخرون : وأمره باستئناف المضمضة والاستنشاق دون الوضوء لمعنيين : ( أحدهما ) أن الخلاف في المضمضة والاستنشاق كان موجودا في زمانه ، فإن أبا حنيفة وغيره ممن تقدم يوجبونهما ، فأحب الخروج من الخلاف والوضوء لم يكن أوجبه أحد ، وإنما حدث خلاف أبي ثور وداود بعده .

                                      ( والثاني ) : أن الماء قد وصل إلى موضع الوضوء دون موضعهما فأمره بإيصاله إليهما . قال أصحابنا : ويستحب استئناف الوضوء ، لكن استحباب المضمضة والاستنشاق آكد ، وقد تقدمت مذاهب العلماء في حكم المضمضة والاستنشاق في الغسل ، والوضوء في باب صفة الوضوء بدلائلها . ومذهبنا ومذهب الجمهور أنهما سنتان في الوضوء والغسل .



                                      ( السادسة ) لا يجب الترتيب في أعضاء المغتسل لكن تستحب البداءة بالرأس ثم بأعالي البدن وبالشق الأيمن .



                                      ( السابعة ) يجب إيصال الماء إلى غضون البدن من الرجل والمرأة وداخل السرة وباطن الأذنين والإبطين وما بين الأليين وأصابع الرجلين وغيرها مما له حكم الظاهر وحمرة الشفة . وهذا كله متفق عليه . ولو التصقت الأصابع والتحمت لم يجب شقها ، وقد سبق إيضاح هذا وبسطه في صفة الوضوء ، ومما قد يغفل عنه باطن الأليين والإبط والعكن والسرة فليتعهد كل ذلك ويتعهد إزالة الوسخ الذي يكون في الصماخ ، قال الشافعي في الأم والأصحاب : يجب غسل ما ظهر من صماخ الأذن دون ما بطن ، ولو كان [ ص: 229 ] تحت أظفاره وسخ لا يمنع وصول الماء إلى البشرة لم يضر وإن منع ففي صحة غسله خلاف سبق بيانه في بابي السواك وصفة الوضوء .



                                      ( الثامنة ) إذا كان ما على بعض أعضائه أو شعره حناء أو عجين أو طيب أو شمع أو نحوه فمنع وصول الماء إلى البشرة أو إلى نفس الشعر لم يصح غسله ، وقد تقدم ، بيان هذا فروع حسنة تتعلق به في آخر صفة الوضوء ، ولو كان شعره متلبدا بحيث لا يصل الماء إلى باطن الشعر لم يصح غسله إلا بنفشه حتى يصل الماء إلى جميع أجزائه ; هكذا نص عليه الشافعي في الأم وقطع به الأصحاب . ولو انعقدت في رأسه شعرة أو شعرات فهل يعفى عنها ؟ ويصح الغسل وهي معقودة ؟ وإن كان الماء لا يصل باطن محل العقد . فيه وجهان حكاهما الروياني والرافعي وغيرهما ، ( أحدهما ) : يعفى عنه وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني وصححه الروياني والرافعي لأنها في معنى الأصبع الملتحمة ، ولأن الماء يبل محلها ، ( والثاني ) : لا يعفى عنه كالملبد ، وقطع هذه الشعرات ممكن بلا ضرر بخلاف الأصبع الملتحمة .



                                      ( التاسعة ) لو ترك من رأسه شعرة لم يصبها الماء لم يصح غسله . وعن أبي حنيفة أنه يصح : فلو نتف تلك الشعرة ، قال الماوردي : إن كان الماء وصل أصلها أجزأه وإلا لزمه إيصاله أصلها ، قال : وكذا لو أوصل الماء إلى أصول شعره دون الشعر ثم حلقه أجزأه ، وذكر صاحب البيان فيه وجهين : ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) : يلزمه غسل مقطع الشعرة والشعرات ، وبه قطع ابن الصباغ في الفتاوى المنقولة عنه .



                                      ( العاشرة ) إذا انشق جلده بجراحة وانفتح فمها وانقطع دمها وأمكن إيصال الماء إلى باطنها الذي يشاهد بلا ضرر وجب إيصاله في الغسل والوضوء ، قطع به الأصحاب ، وقد سبق بيانه في صفة الوضوء ، قال الشيخ أبو محمد الجويني : والفرق بينه وبين الفم والأنف أنهما باقيان على الاستبطان ، وإنما يفتح فمه لحاجة ومحل الجراحة صار ظاهرا فأشبه مكان [ ص: 230 ] الافتضاض من المرأة الثيب ، وقد سبق نص الشافعي على أنه يلزمها إيصال الماء إلى ما برز بالافتضاض . قال أبو محمد : فإن كان للجراحة غور في اللحم لم يلزمه مجاوزة ما ظهر منها ، كما لا يلزم المرأة مجاوزة ما ظهر بالافتضاض . ولو اندملت الجراحة والتأمت سقط الفرض في ذلك الموضع ، كما لو عادت البكارة بعد افتضاض فإنه يسقط غسل ما كان ظهر بالافتضاض وكما لو التحمت أصابع رجليه فإنه لا يجوز له شقها ، بل يكفيه غسل ما ظهر ، وقد سبق هذا في صفة الوضوء . قال أبو محمد : ولو كان في باطن الجراحة دم وتعذرت إزالته وخشى زيادة سرايتها إلى العضو لم يلزمه إيصال الماء إلى باطنها ولزمه قضاء الصلوات عند الشافعي إذا اندملت . ولا يلزمه القضاء عند المزني رضي الله عنهما .



                                      ( الحادية عشرة ) : لو قطعت شفته أو أنفه فهل يلزمه غسل ما ظهر بالقطع في الوضوء والغسل ؟ فيه وجهان سبق إيضاحهما في صفة الوضوء . أصحهما يجب لأنه صار ظاهرا ، ولو كان غير مختون فهل يلزمه في غسل الجنابة غسل ما تحت الجلدة التي تقطع في الختان ، فيها وجهان حكاهما المتولي والروياني وآخرون ( أصحهما ) يجب صححه الروياني والرافعي ، لأن تلك الجلدة مستحقة الإزالة ، ولهذا لو أزالها إنسان لم يضمن ، وإذا كانت مستحقة الإزالة فما تحتها كالظاهر .

                                      ( والثاني ) لا يجب ، وبه جزم الشيخ أبو عاصم العبادي في الفتاوى ، لأنه يجب غسل تلك الجلدة ولا يكفي غسل ما تحتها ، فلو كانت كالمعدومة لم يجب غسلها ، فبقي ما تحتها باطنا .



                                      ( الثانية عشرة ) لا يجب غسل داخل عينيه ، وحكم استحبابه كما سبق في صفة الوضوء ، ولو نبت في عينه شعر لم يلزمه غسله



                                      ( الثالثة عشرة ) لو كان على بعض بدن الجنب نجاسة فغسل ذلك الموضع غسلة واحدة بنية الجنابة ارتفعت النجاسة ، وهل يجزئه عن الجنابة ؟ فيه وجهان سبقا في مواضع بسطتها في باب نية الوضوء ، أصحهما يجزئه ، ولو صب الجنب على رأسه الماء وكان على ظهره نجاسة فنزل عليها فأزالها [ ص: 231 ] فإن قلنا الماء المستعمل في الحدث يصلح لإزالة النجاسة طهر المحل عن النجاسة وهل يطهر عن الجنابة ؟ قال الروياني فيه الوجهان . وإن قلنا : المستعمل في الحدث لا يصلح للنجس . قال الروياني : ففي طهارته عن النجس هنا وجهان : ( أحدهما ) يطهر لأن الماء قائم على المحل وإنما يصير مستعملا بالانفصال ( والثاني ) لا يطهر لأنا لا نجعل الماء في حالة تردده على العضو مستعملا للحاجة إلى ذلك في الطهارة الواحدة ، وهذه طهارة أخرى ، فعلى هذا يجب تطهير هذا المحل عن النجاسة ، وهل يكفيه الغسلة الواحدة فيه عن النجس والجنابة إذا نواها ؟ فيه الوجهان .



                                      ( الرابعة عشرة ) لو أحدث المغتسل في أثناء غسله لم يؤثر ذلك في غسله بل يتمه ويجزيه ، فإن أراد الصلاة لزمه الوضوء ، نص على هذا كله الشافعي في الأم والأصحاب ولا خلاف فيه عندنا ، وحكاه ابن المنذر عن عطاء وعمرو بن دينار وسفيان الثوري واختاره ابن المنذر ، وعن الحسن البصري أنه يستأنف الغسل ، دليلنا أن الحدث لا يبطل الغسل بعد فراغه فلا يبطله في أثنائه كالأكل والشراب .



                                      ( الخامسة عشرة ) هل يجب على السيد أن يشتري لمملوكه ماء الوضوء والغسل من الحيض والجنابة ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي والروياني هنا وآخرون في النفقات ( أحدهما ) يجب كزكاة فطره ، ( والثاني ) لا لأن للطهارة بدلا وهو التيمم فينتقل إليه كما لو أذن لعبده في الحج متمتعا ، فإنه لا يلزم السيد الهدي ، بل ينتقل العبد إلى الصوم ، ويخالف الفطرة فلا بدل لها ، ولم يرجحها واحد من الوجهين . والأول عندي أصح لأنه من مؤن العبد وهي على سيده ، وهل يلزم الزوج شراء ماء الطهارة لزوجته ؟ فيه خلاف ذكره المصنف في باب ما يجب بمحظورات الإحرام ، وذكره المتولي والروياني وآخرون هنا . وذكره البغوي وآخرون في النفقات والأظهر تفصيل ذكره البغوي وتابعه عليه الرافعي ، قال : إن كان الغسل لاحتلامها لم يلزمه ، وإن [ ص: 232 ] كان لجماعه أو نفاس لزمه في أصح الوجهين لأنه بسببه ، وإن كان حيضا لم يلزمه في أصح الوجهين لأنه من مؤن التمكين وهو واجب عليها . قال الرافعي ; وينظر على هذا القياس في ماء الوضوء إلى أن السبب منه كاللمس أم لا ؟ وفي أجرة الحمام وجهان مشهوران في كتاب النفقات ( أحدهما ) : لا يجب إلا إذا عسر الغسل إلا في الحمام لشدة برد وغيره ، واختاره الغزالي ( وأصحهما ) وبه قطع المصنف والبغوي والروياني وآخرون في كتاب النفقات الوجوب إلا أن يكون من قوم لا يعتادون دخوله ، فإن أوجبناها قال الماوردي : إنما تجب في كل شهر مرة .



                                      ( السادسة عشرة ) قال أبو الليث الحنفي في نوازله : لو كان في الإنسان قرحة فبرأت ، وارتفع قشرها ، وأطراف القرحة متصلة بالجلد إلا الطرف الذي كان يخرج منه القيح فإنه مرتفع ، ولا يصل الماء إلى ما تحت القشر أجزأه وضوءه وفي معناه الغسل .



                                      فصل في الأغسال المسنونة لم يذكر لها المصنف رحمه الله بابا مستقلا ، بل ذكرها مفرقة في أبوابها وقد ذكرها هو في التنبيه والأصحاب مجموعة في باب اقتداء بالمزني رحمه الله ، فأحببت موافقة الجمهور في ذكرها مجموعة في موضع ; فإنه أحسن وأحوط وأنفع وأضبط فأذكرها إن شاء الله تعالى في هذا الفصل في غاية الاختصار بالنسبة إلى عادة هذا الشرح . لكوني أبسطها إن شاء الله تعالى بفروعها وأداتها وما يتعلق بها في مواضعها . فمنها غسل الجمعة وهو سنة عندنا وعند الجمهور وأوجبه بعض السلف ، وفيمن يستحب له أربعة أوجه : ( الصحيح ) أنه يستحب لكل من حضر الجمعة سواء الرجل والمرأة ومن تجب عليه ، ومن لا تجب ، ولا يستحب لغيره . [ ص: 233 ] والثاني ) يستحب لكل من تجب عليه ، سواء حضر أم انقطع لعذر ، حكاه الماوردي والروياني ، ورجحه الروياني وادعى أنه قول جمهور أصحابنا ، وليس كما قال .

                                      ( والثالث ) يستحب لمن حضر ممن تلزمه الجمعة دون من لا تلزمه حكاه الشاشي وغيره ، وهذا ضعيف أو غلط .

                                      ( الرابع ) يستحب لكل أحد سواء حضر أو لم يحضر . ومن تلزمه ومن لا تلزمه ، ومن انقطع عنها لعذر ، أو لغيره كغسل العيد . حكاه المتولي وغيره . قال الشافعي ، والأصحاب : ويدخل وقت غسل الجمعة بطلوع الفجر ، ويبقى إلى صلاة الجمعة ، والأفضل أن يكون عند الرواح إليها . فلو اغتسل قبل الفجر لم يحسب . هكذا قطع به الأصحاب في جميع الطرق إلا إمام الحرمين فحكى - وجها - أنه يحسب ، وليس بشيء ، ولو اغتسل بعد الفجر ، ثم أجنب لم يبطل غسل الجمعة عندنا ، قال الماوردي : وبه قال العلماء كافة إلا الأوزاعي فإنه أبطله . دليلنا أن غسل الجمعة يراد للتنظيف فإذا تعقبه غسل الجنابة لم يبطله ، بل هو أبلغ في النظافة . قال الروياني وغيره : ويستحب أن يستأنف غسل الجمعة ليخرج من الخلاف ، قال القفال وصاحبه الصيدلاني والأصحاب : إن لم يجد الماء تيمم ، قالوا : ويتصور ذلك في قوم توضئوا وفرغ ماؤهم ، وفي الجريح في غير أعضاء الوضوء ، واستبعد الغزالي وغيره التيمم لأن المراد قطع الرائحة ، والصواب الأول لأنها طهارة شرعية فناب عنها التيمم كغيرها . ولغسل الجمعة فروع ، وتتمات ، نبسطها في بابها إن شاء الله تعالى .



                                      ومن الغسل المسنون غسل العيدين وهو سنة لكل أحد بالاتفاق ، سواء الرجال والنساء والصبيان ، لأنه يراد للزينة وكلهم من أهلها بخلاف الجمعة ، فإنه لقطع الرائحة ، فاختص بحاضرها على الصحيح . ويجوز بعد الفجر وهل يجوز قبله ؟ قولان ( أحدهما ) : لا ، كالجمعة . وأصحهما : نعم لأن العيد يفعل أول النهار فيبقى أثره ولأن الحاجة تدعو [ ص: 234 ] إلى تقديمه لأن الناس يقصدونه من بعيد فعلى هذا فيه أوجه ( أحدها ) يجوز في جميع الليل ( والثاني ) لا يجوز إلا عند السحر ، وأصحها : يجوز في النصف الثاني لا قبله ، هذا مختصر ما يتعلق بغسل العيد ، وسيأتي إيضاحه مبسوطا بأدلته حيث ذكره المصنف في صلاة العيد إن شاء الله تعالى .



                                      ومن المسنون غسل الكسوفين وغسل الاستسقاء . ومنه غسل الكافر إذا أسلم ولم يكن أجنب ، وقد سبق إيضاحه في باب ما يوجب الغسل . ومنه غسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاق وقد سبق بيانهما في باب ما ينقض الوضوء .



                                      ومنه أغسال الحج ، وهي الغسل للإحرام ولدخول مكة ، وللوقوف بعرفة وللوقوف بالمشعر الحرام ، وثلاثة أغسال لرمي الجمار في أيام التشريق الثلاثة ، نص الشافعي على هذه السبعة في الأم قال : ولا يغتسل لجمرة العقبة . قال أصحابنا : إنما لم يغتسل لها لأن وقتها يدخل من نصف الليل ، ويبقى إلى آخر النهار ، فلا يجتمع لها الناس ، ولأنه اغتسل للوقوف بالمشعر الحرام ، وهو يرمي جمرة العقبة بعده بساعة ، فأثر الغسل باق فلا حاجة إلى إعادته ، وأضاف الشافعي - في القديم - إلى هذه السبعة الغسل لطوافي الزيارة والوداع . قال القاضي أبو الطيب : وللحلق . قال البغوي وغيره : ويسن للحائض والنفساء جميع أغسال الحج إلا غسل الطواف ، لكونها لا تطوف .



                                      ومن المستحب الغسل من غسل الميت ، وللشافعي - قول - أنه يجب إن صح الحديث فيه . ولم يصح فيه حديث ، ولا فرق في هذا بين مس الميت المسلم والكافر ، فيسن الغسل من غسلهما ، ويسن الوضوء من مس الميت نص عليه الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله وقاله الأصحاب ، ونقله إمام الحرمين عن أصحابنا المراوزة وسنبسط الكلام فيه في الجنائز إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف



                                      ومن المستحب الغسل من الحجامة ودخول الحمام ، نص عليهما الشافعي - في القديم - وحكاه عن القديم ابن القاص والقفال وقطعا به ، وكذا قطع [ ص: 235 ] به المحاملي في اللباب والغزالي في الخلاصة البغوي وآخرون ، ونقله الغزالي في الوسيط عن ابن القاص ثم قال : وأنكر معظم الأصحاب استحبابهما ، قال البغوي : أما الحجامة فورد فيها أثر ، وأما الحمام فقيل : أراد به إذا تنور يغتسل وإلا فلا . وقيل : استحبه لاختلاف الأيدي في ماء الحمام . قال : وعندي أن معنى الغسل أنه إذا دخله فعرق استحب ألا يخرج حتى يغتسل . هذا كلام البغوي وروى البيهقي بإسناد - ضعفه - عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الغسل من خمسة من الجنابة ، والحجامة ، وغسل يوم الجمعة ، والغسل من ماء الحمام } " وبإسناده عن ابن عمرو بن العاص قال : " { كنا نغتسل من خمس من الحجامة ، والحمام ، ونتف الإبط ، ومن الجنابة ، ويوم الجمعة } " والله أعلم .



                                      ومن المستحب الغسل لمن أراد حضور مجمع الناس صرح به أصحابنا ونقله الروياني في البحر عن نص الشافعي ، ورأيت في الأم ما يدل عليه صريحا أو إشارة ظاهرة ، قال أبو عبد الله الزبيري في الكافي : يستحب في كل أمر اجتمع الناس له أن يغتسل المرء له ، ويقطع الرائحة المغيرة من جسده ويمس من طيب أهله ، هذه هي السنة . وقال البغوي : يستحب لمن أراد الاجتماع بالناس أن يغتسل ويتنظف ويتطيب . قال المحاملي في اللباب : يستحب الغسل عند كل حال تغير فيه البدن قال أصحابنا : وآكد هذه الأغسال غسل الجمعة والغسل من غسل الميت وأيهما آكد ؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف في الجنائز ، أصحهما عند المصنف وسائر العراقيين الغسل من غسل الميت وهو نصه في الجديد . والثاني : غسل الجمعة وهو قوله القديم وصححه البغوي والروياني وغيرهما . قال الرافعي : وصححه الأكثرون . وهذا هو الصحيح أو الصواب لأن أحاديث غسل الجمعة صحيحة ، وليس في الغسل من غسل الميت شيء صحيح . [ ص: 236 ] وفائدة القولين فيما لو أوصى بماء لأولى الناس أو وكل من يدفعه إلى أولاهم أو آكدهم حاجة فوجد رجلان ، أحدهما : قد غسل ميتا ، والآخر : يريد حضور الجمعة فأيهما أولى به ؟ فيه القولان ، وستأتي دلائل كل ما ذكرته في مواضعه إن شاء الله تعالى ، وبالله التوفيق .



                                      فصل في دخول الحمام روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول الحمامات ، ثم رخص للرجال أن يدخلوها في الميازر } " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم . قال الترمذي ليس إسناده بذاك القائم . وعن أبي المليح - بفتح الميم - قال : دخل نسوة من أهل الشام على عائشة فقالت : من أنتن ؟ فقلن : من أهل الشام فقالت : لعلكن من الكورة التي تدخل نساؤها الحمامات ؟ قلن : نعم ، قالت : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى } " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه قال الترمذي : حديث حسن . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إنها ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها : الحمامات ، فلا يدخلنها الرجال إلا بالأزر وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء } " رواه أبو داود وابن ماجه وفي إسناده من يضعف ، وجاء في دخول الحمام ، عن السلف آثار متعارضة في الإباحة والكراهة . فعن أبي الدرداء رضي الله عنه : " نعم البيت الحمام يذهب الدرن ويذكر النار " . وعن علي وابن عمر رضي الله عنهما : " بئس البيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء " .

                                      وأما أصحابنا فكلامهم فيه قليل ، وممن تكلم فيه من أصحابنا الإمام الفقيه الحافظ أبو بكر السمعاني المروزي رحمه الله ، فقال : جملة القول في دخول الحمام أنه مباح للرجال بشرط التستر وغض البصر ، ومكروه للنساء [ ص: 237 ] إلا لعذر من نفاس أو مرض قال : وإنما كره للنساء لأن أمرهن مبني على المبالغة في التستر ، ولما في وضع ثيابهن في غير بيوتهن من الهتك ; ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر وأنشد :

                                      دهتك بعلة الحمام نعم ومال بها الطريق إلى يزيد

                                      قال : وللداخل آداب منها أن يتذكر بحره حر النار ، ويستعيذ بالله تعالى من حرها ويسأله الجنة ، وأن يكون قصده التنظيف والتطهر دون التنعيم والترفه ، وألا يدخله إذا رأى فيه عاريا ، بل يرجع ، وألا يصلي فيه ، ولا يقرأ القرآن ولا يسلم ، ويستغفر الله تعالى إذا خرج ويصلي ركعتين ، فقد كانوا يقولون : يوم الحمام يوم إثم وروى لكل أدب منها خبرا أو أثرا وذكر آدابا أخر . وذكر الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء فيه كلاما حسنا طويلا مختصره أنه لا بأس بدخول الحمام ، دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام ، قال : وعلى داخله واجبات وسنن ، فعليه واجبان في عورته : صونها عن نظر غيره ومسه ، فلا يتعاطى أمرها ، وإزالة وسخها إلا بيده ، وواجبان في عورة غيره أن يغض بصره عنها ، وأن ينهاه عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب ، فعليه ذلك وليس عليه القبول .

                                      قال : ولا يسقط الإنكار إلا لخوف ضرر أو شتم أو نحوه ، ولا يسقط عنه بظنه أنه لا يفيد قال : ولهذا صار الحزم في هذه الأزمان ترك دخول الحمام ، إذ لا يخلو عن عورات مكشوفة ، لا سيما ما فوق العانة وتحت السرة ولهذا استحب إخلاء الحمام . قال : والسنن عشر ، النية بأن لا يدخل عبثا ولا لغرض الدنيا ، بل يقصد التنظف المحبوب ، وأن يعطي الحمامي الأجرة قبل دخوله ، ويقدم رجله اليسرى في دخوله قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم ، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم . وأن يدخل وقت الخلوة أو يتكلف إخلاء الحمام فإنه - وإن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطون في العورات - فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شوب من قلة الحياء . وهو مذكر للفكر في العورات ، ثم لا يخلو الناس في [ ص: 238 ] الحركات عن انكشاف العورات فيقع عليها البصر . وأن لا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول ، وألا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فهو المأذون فيه ، وأن يذكر بحرارته حرارة نار جهنم لشبهه بها ، وألا يكثر الكلام ، ويكره دخوله بين المغرب والعشاء وقريبا من الغروب ، وأن يشكر الله تعالى إذا فرغ على هذه النعمة وهي النظافة ، ويكره من جهة الطب صب الماء البارد على الرأس عند الخروج من الحمام وشربه . ولا بأس بقوله لغيره عافاك الله ولا بالمصافحة ولا بأن يدلكه غيره يعني في غير العورة .

                                      هذا كلام الغزالي ، ثم ذكر في النساء كلاما حذفته لكون كلام السمعاني أصوب منه ، قال : وإذا دخلت المرأة لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ ، قال ولا يقرأ القرآن إلا سرا ولا يسلم إذا دخل ، فقد اتفق هو والسمعاني على ترك القراءة والسلام ، فأما القراءة فتقدم في آخر باب ما يوجب الغسل أنها لا تكره ولعل مرادهما الأول تركها لأنها مكروهة . وأما ترك السلام فقد وافقهما عليه صاحب التتمة ، فقال : لا يستحب السلام لداخله على من فيه لأنه بيت الشيطان ، ولأن الناس يكونون مشتغلين بالتنظف ، وكذا قاله غيرهم . والحمام مذكر لا مؤنث ، كذا نقله الأزهري في تهذيب اللغة عن العرب ونقله غيره وجمعه حمامات ، مشتق من الحميم وهو الماء الحار . والله أعلم وبه التوفيق .




                                      الخدمات العلمية