الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودية جاءت تسألها فقالت أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعذب الناس في قبورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عائذا بالله من ذلك ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة مركبا فخسفت الشمس فرجع ضحى فمر بين ظهراني الحجر ثم قام يصلي وقام الناس وراءه فقام قياما طويلا ثم ركع ركوعا طويلا ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فسجد ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ثم سجد ثم انصرف فقال ما شاء الله أن يقول ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          446 447 - ( مالك ، عن يحيى بن سعيد ) به قيس الأنصاري ( عن عمرة ) بفتح العين وسكون الميم ( بنت عبد الرحمن ) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية ، ماتت قبل المائة ، وقيل بعدها وأكثرت ( عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهودية ) ، وفي رواية مسروق ، عن عائشة عند البخاري : دخل عجوزان من يهود المدينة ، فقالتا : إن أهل القبور يعذبون في قبورهم فكذبتهما .

                                                                                                          قال الحافظ : وهو محمول على أن إحداهما تكلمت وأقرتها الأخرى ، فنسب القول إليهما مجازا ، والإفراد على المتكلمة ، ولم أقف على اسم واحدة منهما ( جاءت تسألها ) شيئا تعطيه لها ( فقالت : أعاذك الله من عذاب القبر ) دعاء من اليهودية لعائشة على عادة السؤال ( فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) مستفهمة لكونها لم تعلمه قبل ( أيعذب الناس في قبورهم ؟ ) بضم [ ص: 639 ] الياء بعد همزة الاستفهام ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائذا بالله ) قال ابن السيد : منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل ، كقولهم : عوفي عافية ، أو على الحال المؤكدة النائبة مناب المصدر ، والعامل فيه محذوف كأنه قال : أعوذ بالله عائذا ولم يذكر الفعل ؛ لأن الحال نائبة عنه ، وروي بالرفع ؛ أي : أنا عائذ بالله ( من ذلك ) أي : من عذاب القبر .

                                                                                                          وللبخاري ، عن مسروق : " فسألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر فقال : نعم إن عذاب القبر حق ، قالت : فما رأيته بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر " وفي مسلم ، عن عروة ، عن عائشة : " دخلت علي يهودية وهي تقول : هل شعرت أنكم تفتنون في القبور ؟ فارتاع - صلى الله عليه وسلم - وقال : إنما يفتن يهود ، فلبثنا ليالي ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ، فسمعته يستعيذ من عذاب القبر " ، وبين هاتين الروايتين تخالف ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه أنكر على اليهودية ، وفي الأولى أقرها ، وجمع الطحاوي وغيره بأنهما قصتان أنكر قول اليهودية أولا ثم أعلم به ولم تعلم عائشة ، فجاءت اليهودية مرة أخرى فذكرت لها ذلك ، فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول ، فأعلمها - صلى الله عليه وسلم - بأن الوحي نزل بإثباته .

                                                                                                          وقول الكرماني يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ سرا ، فلما رأى استغراب عائشة حين سمعته من اليهودية أعلن به ، كأنه لم يقف على رواية مسلم المذكورة عن عروة الموافقة لرواية عمرة هذه في أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن علم بذلك .

                                                                                                          وأصرح منه ما رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ، عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي ، عن عائشة : " أن يهودية كانت تحدثها فلا تصنع عائشة إليها شيئا من المعروف إلا قالت اليهودية : وقاك الله عذاب القبر ، قالت : فقلت : يا رسول الله هل للقبر عذاب ؟ قال : " كذبت يهود ، لا عذاب إلا يوم القيامة ، ثم مكث ما شاء الله فخرج ذات يوم نصف النهار وهو ينادي بأعلى صوته : أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر ، فإن عذاب القبر حق " ففي هذا كله أنه إنما علم بعذابه بالمدينة في آخر الأمر في صلاة الكسوف ، واستشكل بقوله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا ) ( سورة إبراهيم : الآية 27 ) ، وبقوله : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) ( سورة غافر : الآية 46 ) فإنهما مكيتان .

                                                                                                          وأجيب بأن عذاب القبر إنما يؤخذ من الآية الأولى بالمفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان ، وبالمنطوق في الثانية في حق آل فرعون ومن التحق بهم من الكفار له حكمهم ، فالذي أنكره - صلى الله عليه وسلم - إنما هو وقوع العذاب على الموحدين ، ثم أعلم بأن ذلك قد يقع على من شاء الله منه ، فجزم به وحذر منه ، وبالغ في الاستعاذة منه تعليما لأمته وإرشادا ، فانتفى التعارض بحمد الله ، وفيه أن عذاب القبر ليس خاصا بهذه الأمة بخلاف السؤال ففيه خلاف .

                                                                                                          ( ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة ) من إضافة المسمى إلى اسمه أو " ذات " زائدة ( مركبا ) بفتح الكاف بسبب موت ابنه إبراهيم [ ص: 640 ] ( فخسفت ) بفتحات ( الشمس فرجع ) من الجنازة ( ضحى ) بضم المعجمة مقصور منون ؛ ارتفاع أول النهار ( فمر بين ظهري ) بالتثنية ، وفي رواية : ظهراني ؛ بفتح المعجمة والنون على التثنية أيضا ( الحجر ) بضم المهملة وفتح الجيم جمع حجرة ، قيل : المراد بين ظهر ، والنون والياء زائدة ، وقيل : الكلمة كلها زائدة ، والمراد بين الحجر ؛ أي : بيوت أزواجه ، وكانت لاصقة بالمسجد .

                                                                                                          وفي مسلم من طريق سليمان بن بلال ، عن يحيى ، عن عمرة ، عن عائشة : فخرجت في نسوة بين ظهري الحجر في المسجد ، فأتى - صلى الله عليه وسلم - من مركبه حتى انتهى إلى مصلاه الذي كان يصلي فيه ( ثم قام يصلي ) صلاة الكسوف ( وقام الناس وراءه ) يصلون ( فقام قياما طويلا ) نحو البقرة ( ثم ركع ركوعا طويلا ) يقرب من القيام ( ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ) بنحو آل عمران ( ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ) يقرب من القيام الذي قبله ( ثم رفع فسجد ) سجدتين بفاء التعقيب ، ففيه أنه لم يطل في الاعتدال بعد الركوع الثاني ، ( ثم قام ) من سجوده ( قياما طويلا ) بنحو سورة النساء ( وهو دون القيام الأول ) الذي قبله ، وهو الثاني على مختار الباجي وغيره ( ثم ركع ركوعا طويلا ) يقرب من قيامه ( وهو دون الركوع الأول ) الذي يليه ( ثم رفع فقام قياما طويلا ) بنحو المائدة ( وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول ثم رفع ) رأسه من الركوع ( ثم سجد ) سجدتين طويلتين ( ثم انصرف ) من صلاته بعد التشهد بالسلام ( فقال ما شاء الله أن يقول ) مما تقدم بيانه في الرواية الأولى عن عائشة ، والثانية عن ابن عباس ( ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر ) ، قال الزين بن المنير : مناسبة ذلك أن ظلمة النهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر وإن كان نهارا ، والشيء بالشيء يذكر فيخاف من هذا كما يخاف من هذا ، فجعل الاتعاظ بهذا في التمسك بما ينجي من غائلة الأخرى ، وفيه أن عذاب القبر حق ، وفي صحيح ابن حبان ، عن أبي هريرة مرفوعا في قوله : ( فإن له معيشة ضنكا ) ( سورة طه : الآية 124 ) قال : عذاب القبر .

                                                                                                          وفي الترمذي ، عن علي : ما زلنا في شك في عذاب القبر [ ص: 641 ] حتى نزلت : ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) ( سورة التكاثر : الآية 1 ، 2 ) وقال قتادة والربيع بن أنس في قوله : ( سنعذبهم مرتين ) ( سورة التوبة : الآية 101 ) أن إحداهما في الدنيا والأخرى عذاب القبر .

                                                                                                          والحديث أخرجه البخاري ، عن القعنبي والأوسي كلاهما ، عن مالك به ، وتابعه سليمان بن بلال وسفيان وعبد الوهاب الثقفي الثلاثة عن يحيى بن سعيد عند مسلم ، والله أعلم .




                                                                                                          الخدمات العلمية