الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون

[ ص: 120 ] جملة : كلما دخلت أمة لعنت أختها مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، لوصف أحوالهم في النار ، وتفظيعها للسامع ، ليتعظ أمثالهم ويستبشر المؤمنون بالسلامة مما أصابهم فتكون جملة " حتى إذا اداركوا " داخلة في حيز الاستئناف .

ويجوز أن تكون جملة : كلما دخلت أمة " معترضة بين جملة : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار وبين جملة : حتى إذا اداركوا فيها " إلخ . على أن تكون جملة " حتى إذا اداركوا مرتبطة بجملة " ادخلوا في أمم " بتقدير محذوف تقديره : فيدخلون حتى إذا اداركوا .

و ( ما ) في قوله : " كلما " ظرفية مصدرية ، أي كل وقت دخول أمة لعنت أختها . والتقدير : لعنت كل أمة منهم أختها في كل أوقات دخول الأمة منهم ، فتفيد عموم الأزمنة .

و ( أمة ) نكرة وقعت في حيز عموم الأزمنة ، فتفيد العموم ، أي كل أمة دخلت ، وكذلك : ( أختها ) نكرة لأنه مضاف إلى ضمير نكرة فلا يتعرف فتفيد العموم ، أيضا ، أي كل أمة تدخل تلعن كل أخت لها ، والمراد بأختها المماثلة لها في الدين الذي أوجب لها الدخول في النار ، كما يقال : هذه الأمة أخت تلك الأمة إذا اشتركتا في النسب ، فيقال : بكر وأختها تغلب ، ومنه قول أبي الطيب :

وكطسم وأختها في البعاد

يريد : كطسم وجديس .

والمقام يعين جهة الأخوة ، وسبب اللعن أن كل أمة إنما تدخل النار بعد مناقشة الحساب ، والأمر بإدخالهم النار ، وإنما يقع ذلك بعد أن يتبين لهم [ ص: 121 ] أن ما كانوا عليه من الدين هو ضلال وباطل ، وبذلك تقع في نفوسهم كراهية ما كانوا عليه ، لأن النفوس تكره الضلال والباطل بعد تبينه ، ولأنهم رأوا أن عاقبة ذلك كانت مجلبة العقاب لهم ، فيزدادون بذلك كراهية لدينهم ، فإذا دخلوا النار فرأوا الأمم التي أدخلت النار قبلهم علموا ، بوجه من وجوه العلم ، أنهم أدخلوا النار بذلك السبب فلعنوهم لكراهية دينهم ومن اتبعوه .

وقيل : المراد بأختها أسلافها الذين أضلوها .

وأفادت كلما لما فيها من معنى التوقيت : أن ذلك اللعن يقع عند دخول الأمة النار ، فيتعين إذن أن يكون التقدير : لعنت أختها السابقة إياها في الدخول في النار ، فالأمة التي تدخل النار أول مرة قبل غيرها من الأمم لا تلعن أختها ، ويعلم أنها تلعن من يدخل بعدها الثانية ، ومن بعدها بطريق الأولى ، أو ترد اللعن على كل أخت لاعنة . والمعنى : كلما دخلت أمة منهم بقرينة قوله " لعنت أختها " .

و ( حتى ) في قوله : حتى إذا اداركوا ابتدائية ، فهي جملة مستأنفة وقد تقدم في الآية قبل هذه أن حتى الابتدائية تفيد معنى التسبب ، أي تسبب مضمون ما قبلها في مضمون ما بعدها ، فيجوز أن تكون مترتبة في المعنى على مضمون قوله : قال ادخلوا في أمم قد خلت إلخ ، ويجوز أن تكون مترتبة على مضمون قوله : كلما دخلت أمة لعنت أختها .

و ( اداركوا ) أصله تداركوا فقلبت التاء دالا ليتأتى إدغامها في الدال للتخفيف ، وسكنت ليتحقق معنى الإدغام المتحركين لثقل واجتلبت همزة الوصل لأجل الابتداء بالساكن ، وهذا قلب ليس بمتعين ، وإنما هو مستحسن ، وليس هو مثل قلب التاء في ادان وازداد وادكر . ومعناه : أدرك بعضهم بعضا ، فصيغ من الإدراك وزن التفاعل ، والمعنى : تلاحقوا واجتمعوا في النار . وقوله ( جميعا ) حال من ضمير اداركوا لتحقيق استيعاب الاجتماع ، أي حتى إذا اجتمعت أمم الضلال كلها .

[ ص: 122 ] والمراد : بـ ( أخراهم ) : الآخرة في الرتبة ، وهم الأتباع والرعية من كل أمة من تلك الأمم ، لأن كل أمة في عصر لا تخلو من قادة ورعاع ، والمراد بالأولى : الأولى في المرتبة والاعتبار ، وهم القادة والمتبوعون من كل أمة أيضا ، فالأخرى والأولى هنا صفتان جرتا على موصوفين محذوفين ، أي أخرى الطوائف لأولاهم ، وقيل : أريد بالأخرى المتأخرة في الزمان ، وبالأولى أسلافهم ، لأنهم يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة . وهذا لا يلائم ما يأتي بعده .

واللام في : ( لأولاهم ) لام العلة ، وليست اللام التي يتعدى بها فعل القول ، لأن قول الطائفة الأخيرة موجه إلى الله تعالى ، بصريح قولهم : ربنا هؤلاء أضلونا إلخ ، لا إلى الطائفة الأولى ، فهي كاللام في قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

والضعف بكسر الضاد المثل لمقدار الشيء ، وهو من الألفاظ الدالة على معنى نسبي يقتضي وجود معنى آخر ، كالزوج والنصف ، ويختص بالمقدار والعدد ، هذا قول أبي عبيدة والزجاج وأيمة اللغة ، وقد يستعمل فعله في مطلق التكثير وذلك إذا أسند إلى ما لا يدخل تحت المقدار ، مثل العذاب في قوله تعالى : يضاعف له العذاب يوم القيامة وقوله يضاعف لها العذاب ضعفين أراد الكثرة القوية فقولهم هنا فآتهم عذابا ضعفا أي أعطهم عذابا هو ضعف عذاب آخر ، فعلم أنه آتاهم عذابا ، وهم سألوا زيادة قوة فيه تبلغ ما يعادل قوته ، ولذلك لما وصف بضعف علم أنه مثل لعذاب حصل قبله إذ لا تقول : أكرمت فلان ضعفا ، إلا إذا كان إكرامك في مقابلة إكرام آخر ، فأنت تزيده ، فهم سألوا لهم مضاعفة العذاب لأنهم علموا أن الضلال سبب العذاب ، فعلموا أن الذين شرعوا الضلال هم أولى بعقوبة أشد من عقوبة الذين تقلدوه واتبعوهم ، كما [ ص: 123 ] قال تعالى في الآية الأخرى : يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين .

وفعل : ( قال ) حكاية لجواب الله إياهم عن سؤالهم مضاعفة العذاب لقادتهم ، فلذلك فصل ولم يعطف جريا على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات . والتنوين في قوله : ( لكل ) : عوض عن المضاف إليه المحذوف ، والتقدير : لكل أمة ، أو لكل طائفة ضعف ، أي زيادة عذاب مثل العذاب الذي هي معذبة أول الأمر ، فأما مضاعفة العذاب للقادة فلأنهم سنوا الضلال أو أيدوه ونصروه وذبوا عنه بالتمويه والمغالطات فأضلوا ، وأما مضاعفته للأتباع فلأنهم ضلوا بإضلال قادتهم ، ولأنهم بطاعتهم العمياء لقادتهم ، وشكرهم إياهم على ما يرسمون لهم ، وإعطائهم إياهم الأموال والرشى ، يزيدونهم طغيانا وجراءة على الإضلال ويغرونهم بالازدياد منه .

والاستدراك في قوله : ( ولكن لا تعلمون ) لرفع ما توهمه التسوية بين القادة والأتباع في مضاعفة العذاب : أن التغليظ على الأتباع بلا موجب ، لأنهم لولا القادة لما ضلوا ، والمعنى : أنكم لا تعلمون الحقائق ولا تشعرون بخفايا المعاني ، فلذلك ظننتم أن موجب مضاعفة العذاب لهم دونكم هو أنهم علموكم الضلال ، ولو علمتم حق العلم لاطلعتم على ما كان لطاعتكم إياهم من الأثر في إغرائهم بالازدياد من الإضلال .

ومفعول تعلمون محذوف دل عليه قوله : ( لكل ضعف ) ، والتقدير : لا تعلمون سبب تضعيف العذاب لكل من الطائفتين ، يعني لا تعلمون سبب تضعيفه لكم لظهور أنهم علموا سبب تضعيفه للذين أضلوهم .

وقرأ الجمهور : ( لا تعلمون ) بتاء الخطاب على أنه من تمام ما خاطب الله به الأمة الأخرى ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة فيكون [ ص: 124 ] بمنزلة التذييل خطابا لسامعي القرآن ، أي قال الله لهم ذلك وهم لا يعلمون أن لكل ضعفا فلذلك سألوا التغليظ على القادة فأجيبوا بأن التغليظ قد سلط على الفريقين .

وعطفت جملة : ( وقالت أولاهم لأخراهم ) على جملة : ( قالت أخراهم لأولاهم ) لأنهم لم يدخلوا في المحاورة ابتداء فلذلك لم تفصل الجملة .

والفاء في قولهم : فما كان لكم علينا من فضل فاء فصيحة ، مرتبة على قول الله تعالى لكل ضعف حيث سوى بين الطائفتين في مضاعفة العذاب . و ( ما ) نافية . و ( من ) زائدة لتأكيد نفي الفضل ، لأن إخبار الله تعالى بقوله : ( لكل ضعف ) سبب للعلم بأن لا مزية لأخراهم عليهم في تعذيبهم عذابا أقل من عذابهم ، فالتقدير : فإذا كان لكل ضعف فما كان لكم من فضل ، والمراد بالفضل الزيادة من العذاب .

وقوله : فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون يجوز أن يكون من كلام أولاهم : عطفوا قولهم : ( ذوقوا العذاب ) على قولهم : ( فما كان لكم علينا من فضل ) بفاء العطف الدالة على الترتب . فالتشفي منهم فيما نالهم من عذاب الضعف ترتب على تحقق انتفاء الفضل بينهم في تضعيف العذاب الذي أفصح عنه إخبار الله بأن لهم عذابا ضعفا .

وصيغة الأمر في قولهم : فذوقوا مستعملة في الإهانة والتشفي .

والذوق استعمل مجازا مرسلا في الإحساس بحاسة اللمس ، وقد تقدم نظائره غير مرة .

والباء سببية ، أي بسبب ما كنتم تكسبون مما أوجب لكم مضاعفة العذاب ، وعبر بالكسب دون الكفر لأنه أشمل لأحوالهم ، لأن إضلالهم لأعقابهم كان بالكفر وبحب الفخر والإغراب بما علموهم وما سنوا لهم ، فشمل ذلك كله أنه كسب .

[ ص: 125 ] يجوز أن يكون قوله فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون من كلام الله تعالى ، مخاطبا به كلا الفريقين ، فيكون عطفا على قوله : لكل ضعف ولكن لا تعلمون ويكون قوله : وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل : جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، وعلى اعتباره يكون الأمر في قوله : فذوقوا للتكوين والإهانة .

وفيما قص الله من محاورة قادة الأمم وأتباعهم ما فيه موعظة وتحذير لقادة المسلمين من الإيقاع بأتباعهم فيما يزج بهم في الضلالة ، ويحسن لهم هواهم ، وموعظة لعامتهم من الاسترسال في تأييد من يشايع هواهم ، ولا يبلغهم النصيحة ، وفي الحديث : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية