الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تشتروا بآيتي ثمنا قليلا

عطف على النهي الذي قبله وهذا النهي موجه إلى علماء بني إسرائيل وهم القدوة لقومهم والمناسبة أن الذي صدهم عن قبول دعوة الإسلام هو خشيتهم أن تزول رئاستهم في قومهم فكانوا يتظاهرون بإنكار القرآن ليلتف حولهم عامة قومهم فتبقى رئاستهم عليهم ، قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم والاشتراء تقدم عند قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وهو اعتياض أعيان بغيرها مثلها أو ثمنها من النقدين ونحوهما كأوراق المال والسفاتج وقد استعير الاشتراء هنا لاستبدال شيء بآخر دون تبايع .

والآيات جمع آية وأصلها في اللغة العلامة على المنزل أو على الطريق قال النابغة :

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

ثم أطلقت الآية على الحجة لأن الحجة علامة على الحق قال الحارث بن حلزة :

من لنا عنده من الخير آيات     ثلاث في كلهن القضاء

ولذلك سميت معجزة الرسول آية كما في قوله تعالى في تسع آيات إلى فرعون وقومه وإذا لم تأتهم بآية وأطلقت أيضا على الجملة التامة من القرآن قال تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات وفي الحديث الصحيح قال رسول الله : أما تكفيك [ ص: 464 ] آية الصيف يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة لأن جمل القرآن حجة على صدق الرسول لأن بلاغتها معجزة . وأما إطلاق آية على الجملة من التوراة في حديث الرجم في قول الراوي فوضع المدراس يده على آية الرجم فذلك مجاز على مجاز لعلاقة المشابهة . ووجه المشابهة بين إعراضهم وبين الاشتراء ، أن إعراضهم عن آيات القرآن لأجل استبقاء السيادة ، والنفع في الدنيا يشبه استبدال المشتري في أنه يعطي ما لا حاجة له به ويأخذ ما إليه احتياجه وله فيه منفعته ، ففي تشتروا استعارة تحقيقية في الفعل ، ويجوز كون تشتروا مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم أو بعلاقة الاستعمال المقيد في المطلق كما تقدم في قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى لكن هنا الاستعارة متأتية فهي أظهر لظهور علاقة المشابهة ، واستغناء علاقة المشابهة عن تطلب وجه العدول عن الحقيقة إلى المجاز لأن مقصد التشبيه وحده كاف في العدول إلى الاستعارة ، إذ التشبيه من مقاصد البلغاء . وإذ قد كان فعل الاشتراء يقتضي شيئين أبدل أحدهما بالآخر جعل العوض المرغوب فيه هو المشترى وهو المأخوذ ويعدى إلى الفعل بنفسه ، وجعل العوض الآخر هو المدفوع ويسمى الثمن ويتعدى الفعل إليه بالباء الدالة على معنى العوض .

وقد عدى الاشتراء هنا إلى الآيات بالباء فكانت الآيات هي الواقعة موقع الثمن لأن الثمن هو مدخل الباء فدل دخول الباء على أن الآيات شبهت بالثمن في كونها أهون العوضين عند المستبدل ، وذكر الباء قرينة المكنية لأنها تدخل على الثمن ولا يصح كونها تبعية إذ ليس ثم معنى حقه أن يؤدى بالحرف شبه بمعنى الباء ، فها هنا يتعين سلوك طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية . ولا يصح أيضا جعل الباء تخييلا إذ ليست دالة على معنى مستقل يمكن تخيله . ثم عبر عن مفعول الاشتراء بلفظ الثمن وكان الظاهر أن يعطي لفظ الثمن لمدخول الباء أو أن يعبر عن كل بلفظ آخر كأن يقال لا تشتروا بآياتي متاعا قليلا فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وعبر عن المتاع ونحوه بالثمن على طريق الاستعارة التحقيقية لتشبيه هذا العوض من الرئاسة أو المال بالثمن أو لأنه يشبه الثمن في كونه أعيانا وحطاما جعلت بدلا عن أمر نافع وفي ذلك تعريض بهم في أنهم مغبونو الصفقة إذ قد بذلوا أنفس شيء وأخذوا حظا ما قليلا فكان كلا البدلين في الآية مشبها بالثمن إلا أن الآيات شبهت به في كونها أهون [ ص: 465 ] على المعتاض ، والمتاع الذي يأخذونه شبه بالثمن في كونه شيئا ماديا يناله كل أحد أو للإشارة إلى أن كلا من الآيات والثمن أمر هين على فريق فالآيات هانت على الأحبار والأموال هانت على العامة وخص الهين حقيقة بإعطائه اللفظ الحقيقي الدال على أنه هين وأما الهين صورة فقد أعطى الباء المجازية ، وكل من الاستعارتين قرينة على الأخرى ولأنه لما غلب في الاستعمال إطلاق الثمن على النقدين اختير إطلاق ذلك على ما يأخذونه تلميحا إلى أنهم يأخذون المال عن تغيير الأحكام الشرعية كقوله يأخذون عرض هذا الأدنى .

وقد قيل إن قوله ثمنا قرينة الاستعارة في قوله ولا تشتروا ووجهه أنه لما أدخلت الباء على الآيات تعين أن الآيات هي ثمن الاشتراء فلما عبر بعده بلفظ ثمنا مفعولا لفعل تشتروا علم السامع أن الأول ليس بثمن حقيقي فعلم أن الاشتراء مجاز ثم هو يعلم أن المعبر عنه بالثمن بعد ذلك أيضا ليس بثمن حقيقي تبعا للعلم بالمجاز في الفعل الناصب له .

وقد قيل إن قوله ثمنا تجريد وتقريره مثل تقرير كونه قرينة إذا جعلنا القرينة قوله بآياتي .

وقيل هو ترشيح لأن لفظ الثمن من ملائم الشراء وهو قريب مما قدمناه في كونه استعارة لأن الترشيح في نفسه قد يكون استعارة من ملائم المشبه به لملائم المشبه على الاحتمالات كلها هي تدل على تجهيلهم وتقريعهم .

والآيات لا تستبدل ذواتها فتعين تقدير مضاف أي لا تشتروا بقبول آياتي ثمنا .

وإضافة آيات إلى ضمير الجلالة للتشريف قال الشيخ محمد بن عرفة : عظم الآيات بشيئين الجمع والإضافة إلى ضمير الجلالة وحقر العوض بتحقيرين التنكير والوصف بالقلة اهـ أي وفي ذلك تعريض بغبن صفقتهم إذ استبدلوا نفيسا بخسيس وأقول وصف ( قليلا ) صفة كاشفة لأن الثمن الذي تباع به إضاعة الآيات هو قليل ولو كان أعظم متمول بالنسبة إلى ما أضاعه آخذ ذلك الثمن وعلى هذا المراد ينبغي حمل كلام ابن عرفة .

وقد أجمل العوض الذي استبدلوا به الآيات فلم يبين أهو الرئاسة أو الرشى التي يأخذونها ليشمل ذلك اختلاف أحوالهم فإنهم متفاوتون في المقاصد التي تصدهم عن اتباع الإسلام على حسب اختلاف هممهم .

[ ص: 466 ] ووصف ثمنا بقوله قليلا ليس المراد به التقييد بحيث يفيد النهي عن أخذ عوض قليل دون أخذ عوض له بال وإنما هو وصف ملازم للثمن المأخوذ عوضا عن استبدال الآيات فإن كل ثمن في جانب ذلك هو قليل فذكر هذا القيد مقصود به تحقير كل ثمن في ذلك فهذا النفي شبيه بنفي القيود الملازمة للمقيد ليفيد نفي القيد والمقيد معا كما في البيت المشهور لامرئ القيس :


على لاحب لا يهتدى بمناره     إذا سافه العود الديافي جرجرا

أي لا منار له فيهتدى به لأن الاهتداء لازم للمنار ، وكذلك قول ابن أحمر :


لا يفزع الأرنب أهوالها     ولا ترى الضب بها ينجحر

أي لا أرنب بها حتى يفزع من أهوالها ولا ضب بها حتى ينجحر ، وقول النابغة :

مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد

أي عينا لم ترمد حتى تكحل ; لأن التكحيل لازم للعين الرمداء ومثله كثير في الكلام البليغ .

وقد وقع ( ثمنا ) نكرة في سياق النهي وهو كالنفي فشمل كل عوض ، كما وقعت الآيات جمعا مضافا فشملت كل آية ، كما وقع الفعل في سياق النفي فشمل كل اشتراء إذ الفعل كالنكرة .

والخطاب وإن كان لبني إسرائيل غير أن خطابات القرآن وقصصه المتعلقة بالأمم الأخرى إنما يقصد منها الاعتبار والاتعاظ فنحن محذورون من مثل ما وقعوا فيه بطريق الأولى لأننا أولى بالكمالات النفسية كما قال بشار :


الحر يلحى والعصا للعبد

وكالبيت السائر :


العبد يقرع بالعصا     والحر تكفيه الإشارة

فعلماؤنا منهيون على أن يأتوا بما نهي عنه بنو إسرائيل من الصدف عن الحق لأغراض الدنيا وكذلك كانت سيرة السلف - رضي الله عنهم .

ومن هنا فرضت مسألة جعلها المفسرون متعلقة بهاته الآية وإن كان تعلقها بها ضعيفا وهي مسألة أخذ الأجرة على تعليم القرآن والدين ويتفرع عنها أخذ الأجرة على تعليم العلم وعلى [ ص: 467 ] بعض ما فيه عبادة كالأذان والإمامة . وحاصل القول فيها أن الجمهور من العلماء أجازوا أخذ الأجر على تعليم القرآن فضلا عن الفقه والعلم فقال بجواز ذلك الحسن وعطاء والشعبي وابن سيرين ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والجمهور ، وحجتهم في ذلك الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله وعليه فلا محل لهاته الآية على هذا المعنى عندهم بحال ; لأن المراد بالاشتراء فيها معناه المجازي وليس في التعليم استبدال ولا عدول ولا إضاعة . وقد نقل ابن رشد إجماع أهل المدينة على الجواز ولعله يريد إجماع جمهور فقهائهم . وفي المدونة : لا بأس بالإجازة على تعليم القرآن . ومنع ذلك ابن شهاب من التابعين من فقهاء المدينة وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وتمسكوا بالآية وبأن التعليم لذلك طاعة وعبادة كالصلاة والصوم فلا يؤخذ عليها كذلك وبما روي عن أبي هريرة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال دراهم المعلمين حرام وعن عبادة بن الصامت أنه قال علمت ناسا من أهل الصفة القرآن والكتابة فأهدى إلي رجل منهم قوسا فسألت النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال إن سرك أن تطوق بها طوقا من نار فاقبلها وأجاب عن ذلك القرطبي بأن الآية محملها فيمن تعين عليه التعليم فأبى إلا بالأجر ، ولا دليل على ما أجاب به القرطبي .

فالوجه أن ذلك كان في صدر الإسلام وبث الدعوة فلو رخص في الأجر فيه لتعطل تعليم كثير لقلة من ينفق في ذلك لأن أكثرهم لا يستطيعه ومحمل حديث ابن عباس على ما بعد ذلك حين شاع الإسلام وكثر حفاظ القرآن . وأقول لا حاجة إلى هذا كله لأن الآية بعيدة عن هذا الغرض كما علمت وأجاب القرطبي عن القياس بأن الصلاة والصوم عبادتان قاصرتان وأما التعليم فعبادة متعدية فيجوز أخذ الأجر على ذلك الفعل وهذا فارق مؤثر .

وأما حديث أبي هريرة وحديث عبادة ففيهما ضعف من جهة إسناديهما كما بينه القرطبي ، قلت : ه ولا أحسب الزهري يستند لمثلهما ولا للآية ولا لذلك القياس ولكنه رآه واجبا فلا تؤخذ عليه أجرة وقد أفتى متأخرو الحنفية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه قال في الدرر وشرحه ( ويفتى اليوم بصحتها أي الإجارة لتعليم القرآن والفقه . والأصل أن الإجارة لا تجوز عندنا على الطاعات والمعاصي لكن لما وقع الفتور في الأمور الدينية جوزها المتأخرون اهـ .

ومن فروع هاته المسألة جواز أخذ الأجرة على الأذان والإمامة ، قال ابن عبد البر هي مأخوذة من مسألة الأجر على تعليم القرآن وحكمهما واحد ، وفي المدونة تجوز الإجارة على [ ص: 468 ] الأذان وعلى الأذان والصلاة معا وأما على الصلاة وحدها فكرهه مالك ، قال ابن شاس جازت على الأذان لأن المؤذن لا يلزمه الإتيان به أما جمعه مع الصلاة فالأجرة على الأذان فقط ، وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الإمامة ووجهه أنه تكلف الصلاة في ذلك الموضع في ذلك الوقت ، وروى أشهب عن مالك لا بأس بالأجر على تراويح رمضان وكرهه في الفريضة قال القرطبي وكرهها أبو حنيفة وأصحابه وفي الدرر ويفتى اليوم بصحتها لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس ، وقال القرافي في الفرق الخامس عشر والمائة ولا يجوز في إمامة الصلاة الإجارة على المشهور من مذهب مالك لأنها عقد مكايسة من المعاوضات فلا يجوز أن يحصل العوضان فيها لشخص واحد لأن أجر الصلاة له فإذا أخذ عنها عوضا اجتمع له العوضان ا هـ .

وهو تعليل مبني على أصل واه قدمه في الفرق الرابع عشر والمائة على أن في كونه من فروع ذلك الأصل نظرا لا نطيل فيه فانظره فقد نبهتك إليه ، فالحق أن الكراهة المنقولة عن مالك كراهة تنزيه . وهذه المسألة كانت قد حدثت بين ابن عرفة والدكالي وهي أنه ورد على تونس في حدود سنة سبعين وسبعمائة رجل زاهد من المغرب اسمه محمد الدكالي فكان لا يصلي مع الجماعة ولا يشهد الجمعة معتلا بأن أئمة تونس يأخذون الأجور على الإمامة وذلك جرحة في فاعله فأنكر عليه الشيخ ابن عرفة وشاع أمره عند العامة وحدث خلاف بين الناس فخرج إلى المشرق فارا بنفسه وبلغ أنه ذهب لمصر فكتب ابن عرفة إلى أهل مصر أبياتا هي :


يا أهل مصر ومن في الدين شاركهم     تنبهوا لسؤال معضل نزلا
لزوم فسقكم أو فسق من زعمت     أقواله أنه بالحق قد عملا
في تركه الجمع والجمعات خلفكم     وشرط إيجاب حكم الكل قد حصلا
إن كان شأنكم التقوى فغيركم     قد باء بالفسق حتى عنه ما عدلا
وإن يكن عكسه فالأمر منعكس     قولوا بحق فإن الحق ما اعتزلا

فيقال إن أهل مصر أجابوه بأبيات منها :


ما كان من شيم الأبرار أن يسموا     بالفسق شيخا على الخيرات قد جبلا
لا ولكن إذا ما أبصروا خللا     كسوه من حسن تأويلاتهم حللا
أليس قد قال في المنهاج صاحبه     يسوغ ذاك لمن قد يختشي زللا

[ ص: 469 ] ومنها : وقد

رويت عن ابن القاسم العتقي     فيما اختصرت كلاما أوضح السبلا


ما إن ترد شهادة لتاركها     إن كان بالعلم والتقوى قد احتفلا


نعم وقد كان في الأعلين منزلة     من جانب الجمع والجمعات واعتزلا


كمالك غير مبد فيه معذرة     إلى الممات ولم يسأل وما عذلا هذا وإن الذي أبداه متجها
أخذ الأئمة أجرا منعه نقلا

    وهبك أنك راء حله نظرا
فما اجتهادك أولى بالصواب ولا هكذا

نسبت هذه الأبيات في بعض كتب التراجم للمغاربة أنها وردت من أهل مصر وقد قيل إنها نظمها بعض أهل تونس انتصارا للدكالي . ذكر ذلك الخفاجي في طراز المجالس ، وقال إن المجيب هو أبو الحسن علي السلمي التونسي وذكر أن السراج البلقيني ذكر هاته الواقعة في فتاواه وذكر أن والده أجاب في المسألة بأبيات لامية انظرها هناك .

التالي السابق


الخدمات العلمية