الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أن أخوين أقاما شاهدين على رجل أنه قتل أباهما عمدا فقضى القاضي بذلك وقتلاه ، ثم إن أحدهما قال : قد شهدت الشهود بالزور وأبونا حي غرمته نصف الدية وهذا عندنا . وقال الشافعي عليه القصاص ; لأنهما أقرا أنهما تعمدا قتلا بغير حق وإقرارهما حجة عليهما فيلزمها القصاص بذلك ، وكذلك إذا أقر به أحدهما ; لأن المقر يعامل في حقه كأنما أقر به حق ، وإن كان لا يصدق على غيره فلا يجوز أن يجعل قضاء القاضي شبهة في إسقاط القود عنهما ; لأن قضاء القاضي إنما يكون شبهة في حق من لا يعلم الأمر بخلاف ما قضي به فأما في حق من يعلم ذلك فلا يعتبر قضاء القاضي كما لو رجع أحد شهود الزنا بعد ما رجم المشهود عليه فإنه يلزمه حد القذف ولا يصير قضاء القاضي بالرجم شبهة في حقه لهذا المعنى .

وأصحابنا قالوا : إنهما قتلاه بشبهة ، والقتل بشبهة يوجب المال دون القصاص وبيان ذلك أنهما قتلاه بناء على قضاء القاضي لهما بالقود وهذا قضاء لو كان حقا لكان مبيحا لهما القتل فظاهره يوجب شبهة في درء ما يندرئ بالشبهات كالنكاح الفاسد يكون مسقطا للحد ; لأنه لو كان صحيحا كان مبيحا للوطء فطاهره يورث شبهة وهذا الظاهر يورث شبهة في حق من يعلم حقيقة الأمر وفي حق من لا يعلم كما في النكاح الفاسد وهذا ; لأن القضاء لما كان حقيقة مبيحا فظاهره يمكن شبهة في المحل ، والشبهة في المحل تؤثر في حق من يعلم وفي حق من لا يعلم كمن وطئ جارية أبيه لا يلزمه الحد ، وإن كان يعلم حرمتها عليه وهذا بخلاف حد القذف فإن حقيقة القضاء بالزنا هناك لا تبيح شبهة من غير فائدة فكذلك ظاهره [ ص: 180 ] لا يورث شبهة ، ثم الفرق ما بيناه في كتاب الصوم أن هناك إنما يلزمه الحد بسبب سابق على القضاء ، وهو الشهادة على الزنا ; لأنه نسبه إلى الزنا لما انتزع معنى الشهادة من كلامه برجوعه ، وقد كان ذلك سابقا على القضاء هناك فأما هنا ، فالسبب الموجب للقود مباشرة القتل وذلك وجد منهما بعد القضاء فيكون صورة القضاء شبهة .

ويتضح كلامنا فيما إذا أقر بذلك أحد الاثنين وجحد الآخر ; لأنهما باشرا القتل ، والجاحد منهما محق حتى لا يلزمه قصاص ولا دية فيكون هذا أقوى في التأثير من الخاطئ إذا شارك العامد في القتل وهناك لا يجب القود على واحد منهما فهنا أولى ، وإذا سقط القود وجب على الراجع منهما نصف الدية في ماله لإقراره بالقتل بغير حق وما يجب بالإقرار لا تتحمله العاقلة ولو كان أحد الأخوين قتل القاتل قبل القضاء لهما عليه بالقتل ، أو قبل أن تقوم لهما بينة على ذلك ، ثم أقر هو أنه قتله بغير حق ، وأن الأب حي فعليه القصاص ; لأنه لم يقترن بالسبب الموجب للقصاص عليه شبهة قضاء مانع ، وإن لم يقل هو شيئا ، ولكن الآخر قال : قد كنت عفوت ، أو كنت أريد أن أعفو ، أو كنت صالحت ولا بينة له على ذلك فإنه لا يصدق على أخيه ; لأن إقراره بذلك حينئذ متمثل بين الصدق ، والكذب فيجعل في حق غيره كذبا إذ لا ولاية له على غيره في أنه يلزمه شيئا بقول قاله ولا شيء على أخيه .

وإن كان أخذ غير حقه من قبل الشركة يعني أنه إذا كان هذا بعد ما قامت البينة لهما على القتل وقضى القاضي بذلك ، ثم هو ظاهر على أصل أبي حنيفة ; لأن عنده قد وجب حق كل واحد منهما في جميع القود كأنه ليس معه غيره فيكون مستوفيا حقه وعندهما الواجب لكل واحد منهما بعض القود إلا أنه لا يلزمه شيء لأجل الشركة ، وهو أنه لا يتمكن من استيفاء نصيبه إلا باستيفاء ما بقي وفعله في نصيبه استيفاء غير موجب للضمان عليه ، فإذا خرج بعض فعله من أن يكون واجبا موجبا للضمان عليه خرج جميعه من أن يكون موجبا للضمان عليه ; لأنه لا يحتمل الوصف بالتجزي وبعد ما لم يكن أصل فعله موجبا للضمان عليه لا يصير موجبا بإقرار أخيه ، فإن أقام ورثة المقتول بينة على هذا أنه قد كان صالح على كذا قبل أن يقتل الآخر ، أو كان عفا أجزت ذلك ; لأن الثابت بالبينة التي يقيمها من هو خصم كالثابت باتفاق الخصوم ، ثم القاتل يكون ضامنا للدية ; لأنه تبين أنه باشر القتل بغير الحق ، وقد سقط القود عنه للشبهة حين لم يكن عالما بصلح أخيه وعفوه ويجب له من ذلك نصف الدية ; لأن بعفو أخيه انقلب نصيبه مالا على القاتل ، وقد استوجب القاتل عليه كمال الدية في ماله أيضا فيكون .

[ ص: 181 ] النصف قصاصا ، فإن كان قتل بعد عفو أخيه ، أو صلحه وبعد ما علم بأن الدم قد حرم عليه فعليه القصاص لانتفاء الشبهة وله نصف الدية في مال القاتل ; لأن نصيبه كان انقلب مالا لو مات القاتل فيستوفى من تركته فكذلك إذا قتله والله أعلم

التالي السابق


الخدمات العلمية