الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ومن أعطى النظر حقه علم أن هؤلاء الملاحدة قلبوا الحقيقة ونفوا / عن الرب التقدم الحقيقي، ومنعوا إمكان التقدم الحقيقي بحال، كما أنهم وملاحدة المتكلمين في العلو قلبوا الحقيقة فنفوا عن الرب العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية؛ بل منعوا إمكان العلو الحقيقي والمباينة الحقيقية؛ بل منعوا أو موهوا بما في لفظ المكان من الاشتراك كما موه أولئك بما في لفظ الزمان من الاشتراك، وبيان ذلك أن يقال: لا ريب أنه يقال إن التقدم والتأخر والمقارنة من الأمور التي فيها إضافة، كما يقال: هذا إما أن يكون متقدما على هذا أو متأخرا عنه أو مقارنا له، ويقال إما أن يكون معه أو قبله أو بعده، وإما أن يكون معه أو أمامه أو خلفه، فلفظ مع هي بمعنى المقارنة والمصاحبة، وهي ظرف يقارن ظرف الزمان تارة وظرف المكان أخرى، فإذا قيل: هو قبله أو بعده أو معه كانت هنا ظرف زمان، وإذا قيل أمامه أو وراءه أو معه كانت ظرف مكان.

والتقدم والتأخر قسيمان للمقارنة التي يعبر عنها بلفظ مع؛ فيقال: هو متقدم عليه أو متأخر عنه أو هو معه، وإذا كان [ ص: 193 ] كذلك فالتقدم والتأخر والمقارنة في الأصل إنما هي بالزمان والمكان، كما أنه المستعمل في ذلك إذا قلب الزمان والمكان، وهي الألفاظ التي تسمى ظروف الزمان والمكان، والله الذي علم البيان علم الإنسان العبارة عن المعاني التي يعقلها قلبه، فالمعقول لبني آدم من ذلك هو المعبر عنه بألفاظ الزمان والمكان، فأما التقدم والتأخر بالمكان كقول سمرة بن جندب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كنا ثلاثة أن يتقدم أحدنا".

رواه الترمذي، وكقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي في الصحيحين لما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومنه الحديث في صلاة [ ص: 194 ] الخوف، ذكر الصف المقدم والصف المؤخر.

وهكذا لفظ الأول والآخر يستعمل في المكان، كما يستعمل في الزمان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". ونظائر هذا في الاستعمال كثير، ومنه قوله تعالى: وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار [هود: 97-98] مع أن تقدم فرعون وتقدم الإمام هو بالمكان والزمان جميعا، فإذا فعله قبل فعلهم وهو إمامهم.

[ ص: 195 ] ثم التقدم بالرتبة والشرف هو من هذا؛ فإن المكانة والرتبة مأخوذة من المكان، لأن صاحب الرتبة المتقدمة يكون متقدما في المكان والمكانة على صاحب الرتبة المتأخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" والتقدم بالرتبة كالعلو بالرتبة والدرجة والمكانة، وأصله من المكان، وقد تكلمنا على هذا مبسوطا في غير هذا الموضع، وسنوضحه -إن شاء الله- إذا تكلمنا على ما تأول به ما جاء في القرآن من وصفه سبحانه بالعلو.

فإن إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته التي وصف فيها بالعلو والظهور والرفعة تشبه إلحاد هؤلاء في أسمائه وآياته، التي [ ص: 196 ] وصف فيها بالأولية والتقدم.

التالي السابق


الخدمات العلمية