الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
ونحن لا ننازع في أن الصفات يعرض لها الترتيب الزماني كما يعرض للأعداد، كما تقدم؛ ولكن ليس هذا بواجب، ومتى [ ص: 201 ] انتفى هذا الترتيب لم تكن مرتبة أصلا؛ بل تكون متقارنة، وأما الترتيب في علم الإنسان بالصفات فهذا لا ينضبط؛ فقد يعلم الإنسان العلم، ويستدل به على الحياة، وقد يعلم الحياة ويستدل بها على العلم وحيث وجد ذلك الترتيب فهو ترتيب زماني، وهو ترتيب في العلم بها والتعبير عنها لا في ذاتها.

وأما ما ذكر[و]ه من التقدم بالعلية فيقال لهم: ليس لهذا أيضا حقيقة، وليس في المخلوق شيء واحد هو علة تامة لشيء أصلا؛ لكن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمراده بها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وما سوى ذلك من الأسباب الموجودة فليس شيء منها بمفرده علة تامة لشيء؛ ولكن يكون سببا، والسبب بمنزلة الشرط، الذي إذا ضم إليه غيره من الأسباب / صار المجموع علة؛ ولكن ذلك المجموع لا يكون إلا بمشيئة الله، لا يكون المجموع بعلة غير مشيئة الله قط فإذا وصف العلية التامة لا تقوم بشيء من المخلوقات؛ وإذا لم يكن شيء من المخلوقات علة تامة امتنع بطريق الأولى أن يكون متقدما بالعلية؛ لكن يكون سببا، وهو كالشرط، والشرط لا يجب تقدمه على المشروط؛ بل قد يقارنه، وقد يسبقه كما تقدم، وإذا قارنه فليس هو متقدما عليه بوجه من الوجوه، فكذلك ما يسمونه علة إنما هو في الحقيقة شرط وسبب، ويكون مقارنا للمعلول الذي هو في الحقيقة شرط وسبب، ويكون متقدما عليه، وإذا كان [ ص: 202 ] مقارنا لم يكن متقدما، فلا يجتمع الضدان. وذلك يظهر فيما يذكرونه من الأمثلة، وأشهرها الشمس مع الشعاع، والشعاع عندهم إما أن يراد به ما يقوم بذات الشمس من الضوء، أو ما يقوم بالأجسام المقابلة للشمس، وهو المسمى بالشعاع عندهم، وهو شعاع منعكس، فإن أريد به الضوء القائم بذات الشمس فذاك صفة من صفاتها، ليست متقدمة عليه بوجه من الوجوه، ومن جعل تقدم الباري على العالم كتقدم ذات الشمس على صفتها فقد جعل المخلوقات مثل صفة من صفات الخالق، وجعل الخالق بمنزلة المحل للمخلوقات وهذا أقبح من قول من يقول إن الباري حال في المخلوقات.

ونحن إنما قصدنا أن نبين أن قول هؤلاء أقبح من قول أولئك؛ لكن هؤلاء مع زيادة القبح يكونون قد جعلوا الصانع محلا للمخلوقات من هذا الوجه، وحالا فيها. وإن أرادوا بالشعاع الضوء الموجود في الأجسام المقابلة للشمس من الجدران والأرض والهواء وغير ذلك فيقال: هذا الشعاع لم يحدث لمجرد الشمس، وليست الشمس وحدها علة مولدة له؛ بل لابد فيه من شيئين: أحدهما الشمس. والثاني جسم آخر [ ص: 203 ] يقابل الشمس، لينعكس الشعاع عليه، وإذا لم تكن الشمس علة تامة [لم يـ ]حصل المقصود؛ بل هي جزء العلة، وهي سبب وشرط، فإن الشعاع يتوقف على الشمس المستنيرة، وعلى المحل الذي ينعكس عليه الشعاع، وإذا كان كذلك كان توقفه على هذين توقف المشروط على شرطه؛ فإنهم فرقوا بين التقدم بالعلة والتقدم بالطبع والشرط، بأن المتقدم بالعلة يستلزم وجود المتأخر بخلاف المتقدم بالشرط، وقد تقدم قولنا إنه ليس في المخلوقات شيء منفرد يستلزم وجود شيء متأخر عنه، لكن مشيئته مستلزمة لمرادها؛ فما [شاء] الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وقد ظهر في الشعاع الذي ضربوه مثلا أن نفس الشمس وحدها لو قدر وجودها بدون ما يقابلها لم يكن للشعاع وجود، ولكن وجوده بشرط الشمس وشرط ما يقابلها / فيكونان شرطين، وإذا كان كل منهما شرطا، فالشرط قد يتقدم على المشروط، وقد لا يتقدم عليه، فلا ريب أن الجدار والأرض والهواء موجود قبل الشعاع، وكذلك الشمس موجودة قبل هذا الشعاع، وذلك تقدم بالزمان؛ ولكن إذا حصلت المقابلة حصل الشعاع، وتولد عن اجتماع هذين الأصلين له كتولد غيره من المتولدات عن [ ص: 204 ] أصلين، وكل منهما متقدم عليه، ومتى ظهر هذا في شعاع الشمس ظهر أنها في شعاع السراج وغيره من النيرات؛ إذ النار يكون لها شعاع، كما يكون للشمس شعاع، فهذا ما يمثلون به من المرئيات.

وأما ما يمثلون به من المسموعات فإنهم يمثلون بوجود الأصوات عن الحركات، لوجود الطنين عن النقرة، فيقال: وهذا أيضا كذلك؛ فإن الصوت لا يولده شيء واحد؛ بل لا بد من شيئين من جسمين يقرع أحدهما الآخر أو يقلع عنه، وهذان أصلان للصوت الذي تولد عنهما كأصلي الشعاع، وهذان الأصلان -وهما الجسمان المتحركان- هما متقدمان عليه بالزمان.

التالي السابق


الخدمات العلمية