الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 396 ] قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ناداه نداء استضعاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم ، كما قال :

يا ابن أمي ويا شقيق نفسي وقال آخر : يا ابن أمي فدتك نفسي ومالي

وأيضا فكانت أمهما مؤمنة ، قالوا : وكان أبوه مقطوعا عن القرابة بالكفر ، كما قال تعالى لنوح عليه السلام : إنه ليس من أهلك ، وأيضا لما كان حقها أعظم لمقاساتها الشدائد في حمله وتربيته والشفقة عليه ذكره بحقها ، وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحفص : ابن أم بفتح الميم ، فقال الكوفيون : أصله يا ابن أماه ، فحذفت الألف تخفيفا ، كما حذفت في يا غلام ، وأصله يا غلاما ، وسقطت هاء السكت ; لأنه درج ، فعلى هذا الاسم معرب ; إذ الألف منقلبة عن ياء المتكلم ، فهو مضاف إليه ابن ، وقال سيبويه : هما اسمان بنيا على الفتح كاسم واحد ، كخمسة عشر ونحوه ، فعلى قوله : ليس مضافا إليه ابن والحركة حركة بناء ، وقرأ باقي السبعة بكسر الميم ، فقياس قول الكوفيين أنه معرب وحذفت ياء المتكلم واجتزئ بالكسرة عنها ، كما اجتزأوا بالفتحة عن الألف المنقلبة عن ياء المتكلم ، وقال سيبويه : هو مبني أضيف إلى ياء المتكلم ، كما قالوا : يا أحد عشر أقبلوا ، وحذفت الياء واجتزأوا بالكسرة عنها ، كما اجتزأوا في : يا قوم ولو كانا باقيين على الإضافة لم يجز حذف الياء ; لأن الاسم ليس بمنادى ولكنه مضاف إليه المنادى ، فلا يجوز حذف الياء منه ، وقرئ بإثبات ياء الإضافة ، وأجود اللغات الاجتزاء بالكسرة عن ياء الإضافة ، ثم قلب الياء ألفا والكسرة قبلها فتحة ، ثم حذف التاء وفتح الميم ، ثم إثبات التاء مفتوحة أو ساكنة ، وهذه اللغات جائزة في ابنة أمي وفي ابن عمي وابنة عمي ، وقرئ يا ابن أمي بإثبات الياء ، وابن إم بكسر الهمزة والميم ، ومعمول القول المنادى ، والجملة بعده المقصود بها تخفيف ما أدرك موسى من الغضب والاستعذار له بأنه لم يقصر في كفهم من الوعظ والإنذار وما بلغته طاقته ، ولكنهم استضعفوه فلم يلتفتوا إلى وعظه ، بل قاربوا أن يقتلوه ، ودل هذا على أنه بالغ في الإنكار عليهم حتى هموا بقتله ، ومعنى : استضعفوني وجدوني ، فهي بمعنى إلفاء الشيء بمعنى ما صيغ منه ، أي : اعتقدوني ضعيفا ، وتقدم ذلك في قوله : للذين استضعفوا ولما أبدى له ما كان منهم من الاستضعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله فقال : فلا تشمت بي الأعداء ، أي : لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوما منهم ومنك ، وقال الشاعر :


والموت دون شماتة الأعداء

وقرأ ابن محيصن : ( تشمت ) بفتح التاء وكسر الميم ونصب : ( الأعداء ) ومجاهد كذلك ، إلا أنه فتح الميم ، وشمت متعدية كأشمت ، وخرج أبو الفتح قراءة مجاهد على أن تكون لازمة ، والمعنى : فلا تشمت أنت يا رب ، وجاز هذا ، كما قال الله يستهزئ بهم ، ونحو ذلك ، ثم عاد إلى المراد ، فأضمر فعلا نصب به الأعداء ، كقراءة الجماعة ، انتهى ، وهذا خروج عن الظاهر وتكلف في الإعراب ، وقد روي تعدي شمت لغة ، فلا يتكلف أنها لازمة مع نصب الأعداء ، وأيضا قوله : الله يستهزئ بهم إنما ذلك على سبيل المقابلة لقولهم : إنما نحن مستهزئون فقال : الله يستهزئ بهم وكقوله : ويمكرون ويمكر الله ولا يجوز ذلك ابتداء من غير مقابلة ، وعن مجاهد : ( فلا تشمت ) بفتح التاء والميم ، ورفع : ( الأعداء ) ، وعن حميد بن قيس كذلك إلا أنه كسر الميم جعلاه فعلا لازما فارتفع به الأعداء ، فظاهره أنه نهى الأعداء عن الشماتة به ، وهو من باب لا أرينك هنا ، والمراد نهيه أخاه ، أي : لا تحل بي مكروها فيشمتوا بي ، وبدأ أولا بسؤال أخيه أن لا يشمت به الأعداء ؛ لأن ما يوجب الشماتة هو فعل مكروه ظاهر لهم فيشمتوا به فبدأ بالأوكد ثم سأله أن لا يجعله ويعتقده واحدا من الظالمين ; إذ جعله معهم واعتقاده من جملتهم هو فعل قلبي ، وليس ظاهرا لبني إسرائيل ، أو يكون المعنى : ولا تجعلني في موجدتك علي قرينا لهم مصاحبا لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية