الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 479 ] قال شيخ الإسلام رحمه الله فصل قوله تعالى { علوا كبيرا } { عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } لا يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا نهيا ولا إذنا كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه }

                . وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها { إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك } وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم : { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } فإذا قوي أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى [ ص: 480 ] البر ; بل يؤذون الناهي لغلبة الشح والهوى والعجب سقط التغيير باللسان في هذه الحال وبقي بالقلب و " الشح " هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم وهو منع الخير وكراهته و " الهوى المتبع " في إرادة الشر ومحبته و " الإعجاب بالرأي " في العقل والعلم فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض . كما في الحديث الآخر : { ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وبإزائها الثلاث المنجيات : خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا } وهي التي سألها في الحديث الآخر : { اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى }

                . فخشية الله بإزاء اتباع الهوى فإن الخشية تمنع ذلك كما قال : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } والقصد في الفقر والغنى بإزاء الشح المطاع وكلمة الحق في الغضب والرضا بإزاء إعجاب المرء بنفسه وما ذكره الصديق ظاهر ; فإن الله قال : { عليكم أنفسكم } أي الزموها وأقبلوا عليها ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي . وقال : { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله وأدي الواجب من الأمر والنهي وغيرهما ; ولكن في الآية فوائد عظيمة .

                [ ص: 481 ] " أحدها " ألا يخاف المؤمن من الكفار والمنافقين فإنهم لن يضروه إذا كان مهتديا . " الثاني " ألا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى والحزن على ما لا يضر عبث وهذان المعنيان مذكوران في قوله : { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون }

                . " الثالث " ألا يركن إليهم ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات كقوله : { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم } فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم إما راغبا وإما راهبا . " الرابع " ألا يعتدي على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم أو نهيهم أو هجرهم أو عقوبتهم ; بل يقال لمن اعتدى عليهم عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت كما قال : { ولا يجرمنكم شنآن قوم } الآية .

                وقال : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وقال : { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يعتدي [ ص: 482 ] حدود الله إما بجهل وإما بظلم وهذا باب يجب التثبت فيه وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين .

                " الخامس " أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع من العلم والرفق والصبر وحسن القصد وسلوك السبيل القصد فإن ذلك داخل في قوله : { عليكم أنفسكم } وفي قوله : { إذا اهتديتم } . فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفيها المعنى الآخر . وهو إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا وإعراضه عما لا يعنيه كما قال صاحب الشريعة : { من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه } ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه لا سيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة .

                وكذلك العمل فصاحبه إما معتد ظالم وإما سفيه عابث وما أكثر ما يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ويكون من باب الظلم والعدوان . فتأمل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة علمائها وعبادها وأمرائها [ ص: 483 ] ورؤسائها وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن ; محنة أحمد وغيره وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به وهو الإسراف المذكور في قولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا }

                . وبإزاء هذا العدوان تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها فما أحسن ما قال بعض السلف : ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين - لا يبالي بأيهما ظفر - غلو أو تقصير . فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى وفاعل المأمور به وزيادة منهي عنها بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به والله يهدينا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية