الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه استسقى على وجوه .

أحدها : يوم الجمعة على المنبر في أثناء خطبته ، وقال ( اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ، اللهم اسقنا ) .

الوجه الثاني : ( أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوما يخرجون فيه إلى المصلى ، فخرج لما طلعت الشمس متواضعا ، متبذلا ، متخشعا ، مترسلا ، [ ص: 440 ] متضرعا ، فلما وافى المصلى صعد المنبر - إن صح ، وإلا ففي القلب منه شيء - فحمد الله وأثنى عليه وكبره ، وكان مما حفظ من خطبته ودعائه : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت تفعل ما تريد ، اللهم لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته علينا قوة لنا وبلاغا إلى حين ) . ثم رفع يديه وأخذ في التضرع والابتهال والدعاء وبالغ في الرفع حتى بدا بياض إبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، واستقبل القبلة ، وحول إذ ذاك رداءه وهو مستقبل القبلة فجعل الأيمن على الأيسر ، والأيسر على الأيمن ، وظهر الرداء لبطنه ، وبطنه لظهره ، وكان الرداء خميصة سوداء ، وأخذ في الدعاء مستقبل القبلة ، والناس كذلك ، ثم نزل فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد من غير أذان ولا إقامة ولا نداء البتة ، جهر فيهما بالقراءة ، وقرأ في الأولى بعد فاتحة الكتاب ( سبح اسم ربك الأعلى ) وفي الثانية : ( هل أتاك حديث الغاشية ) .

الوجه الثالث : أنه صلى الله عليه وسلم ( استسقى على منبر المدينة ) استسقاء مجردا في [ ص: 441 ] غير يوم جمعة ، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء صلاة .

الوجه الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله عز وجل فحفظ من دعائه حينئذ : ( اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا طبقا عاجلا غير رائث نافعا غير ضار )

الوجه الخامس : أنه صلى الله عليه وسلم ( استسقى عند أحجار الزيت قريبا من الزوراء ) وهي خارج باب المسجد الذي يدعى اليوم باب السلام نحو قذفة حجر ، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد .

الوجه السادس : أنه صلى الله عليه وسلم استسقى في بعض غزواته لما سبقه المشركون إلى الماء فأصاب المسلمين العطش ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعض المنافقين : لو كان نبيا لاستسقى لقومه كما استسقى موسى لقومه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : ( أوقد قالوها ؟ عسى ربكم أن يسقيكم ثم بسط يديه ودعا ) فما رد يديه من دعائه حتى أظلهم السحاب وأمطروا ، فأفعم السيل الوادي ، فشرب الناس فارتووا .

وحفظ من دعائه في الاستسقاء : ( اللهم اسق عبادك وبهائمك ، وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت ) ( اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا نافعا [ ص: 442 ] غير ضار ، عاجلا غير آجل ) . وأغيث صلى الله عليه وسلم في كل مرة استسقى فيها .

واستسقى مرة ، فقام إليه أبو لبابة ، فقال : يا رسول الله إن التمر في المرابد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا ، فيسد ثعلب مربده بإزاره فأمطرت فاجتمعوا إلى أبي لبابة ، فقالوا : إنها لن تقلع حتى تقوم عريانا فتسد ثعلب مربدك بإزارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففعل فاستهلت السماء )

ولما كثر المطر سألوه الاستصحاء ، فاستصحى لهم ، وقال : ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام ، والجبال ، والظراب ، وبطون الأودية ، ومنابت الشجر )

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى مطرا ، قال : ( اللهم صيبا نافعا ) .

وكان يحسر ثوبه حتى يصيبه من المطر ، فسئل عن ذلك ، فقال : ( لأنه حديث عهد بربه )

قال الشافعي رحمه الله : أخبرني من لا أتهم عن يزيد بن الهاد أن [ ص: 443 ] النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سال السيل قال : ( اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر منه ونحمد الله عليه )

وأخبرني من لا أتهم ، عن إسحاق بن عبد الله أن عمر كان إذا سال السيل ذهب بأصحابه إليه وقال : ما كان ليجيء من مجيئه أحد إلا تمسحنا به.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الغيم والريح ، عرف ذلك في وجهه فأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سري عنه وذهب عنه ذلك ، وكان يخشى أن يكون فيه العذاب .

قال الشافعي : وروي عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه مرفوعا أنه كان إذا استسقى قال : ( اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مجللا عاما طبقا سحا دائما ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك ، اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع ، واسقنا من بركات السماء ، وأنبت لنا من بركات الأرض ، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري ، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك ، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا ، فأرسل السماء علينا مدرارا )

قال الشافعي رحمه الله : وأحب أن يدعو الإمام بهذا ، قال : وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا في الاستسقاء رفع يديه وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمطر [ ص: 444 ] في أول مطرة حتى يصيب جسده .

قال : وبلغني أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أصبح وقد مطر الناس ، قال : ( مطرنا بنوء الفتح ، ثم يقرأ ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ) ) [ فاطر : 2 ] .

قال : وأخبرني من لا أتهم عن عبد العزيز بن عمر ، عن مكحول ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش ، وإقامة الصلاة ، ونزول الغيث ) .

وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند : نزول الغيث وإقامة الصلاة .

قال البيهقي : وقد روينا في حديث موصول عن سهل بن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ( الدعاء لا يرد عند النداء ، وعند البأس ، وتحت المطر . )

وروينا عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تفتح أبواب السماء ، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن : عند التقاء الصفوف ، وعند نزول الغيث ، وعند إقامة الصلاة ، وعند رؤية الكعبة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية