الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            والمسألة الثالثة : اختلفوا في كيفية هذا التزيين ، أما المعتزلة فذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قال الجبائي : المزين هو غواة الجن والإنس ، زينوا للكفار الحرص على الدنيا ، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم ، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة ، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا . قال : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل ; لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فإن كان المزين هو الله تعالى ، فإما أن يكون صادقا في ذلك التزيين ، وإما أن يكون كاذبا ، فإن كان صادقا وجب أن يكون ما زينه حسنا ، فيكون فاعله المستحسن له مصيبا ، وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذبا في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر ، وهذا أيضا كفر ، قال : فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان . هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في "تفسيره" .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : هذا ضعيف ; لأن قوله تعالى : ( زين للذين كفروا ) يتناول جميع الكفار ، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين ، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم ، إلا أن يقال : إن كل واحد منهم كان يزين للآخر ، وحينئذ يصير دورا ، فثبت أن الذي يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايرا لهم ، فبطل قوله : إن المزين هم غواة الجن والإنس ; وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضا ، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف ، وأما قوله : المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفا بالزينة ، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزينا ، وعلى هذا التقدير سقط كلامه ، ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فلم لا يجوز أن يقال : الله تعالى أخبر عن حسنه ، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والراحات ، والإخبار عن ذلك ليس بكذب ، والتصديق بها ليس بكفر ، فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            التأويل الثاني : قال أبو مسلم : يحتمل في ( زين للذين كفروا ) أنهم زينوا لأنفسهم ، والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك؟ لا يريدون أن ذاهبا ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : ( أنى يؤفكون ) [المائدة : 75] ، ( أنى يصرفون ) [غافر : 69] إلى غير ذلك ، وأكده بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) [المنافقون : 9] فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ، ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهرا ، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه ، واعلم أن هذا ضعيف ; وذلك لأن قوله : ( زين ) يقتضي أن مزينا زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن .

                                                                                                                                                                                                                                            التأويل الثالث : أن هذا المزين هو الله تعالى ، ويدل على صحة هذا التأويل وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قراءة من قرأ (زين للذين كفروا الحياة الدنيا) على البناء للفاعل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله تعالى : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) [الكهف : 7] .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة ، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ، ونظيره قوله تعالى : ( زين للناس حب الشهوات ) [آل عمران : 14] إلى قوله : ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات ) [آل عمران : 15] وقال أيضا : ( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) [الكهف : 46] وقالوا : فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى في الكل [ ص: 7 ] أن الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الامتحان ، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص الشديد في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد ، وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر ، وهذا محال ، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، أو ما رجح , فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه ، فهذا يمنع كونه تزيينا في قلبه ، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين ، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار ؛ لأن حال الاستواء لما امتنع حصول الرجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحا كان أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين ، فهذا هو توجيه السؤال ، ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : في تقرير هذا التأويل أن المراد : أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال ، وهذا أيضا ضعيف ; وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار ، وتزيين المباحات لا يختص به الكفار ، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات ، وأيضا فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص ، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها ، وليس كذلك الكافر ، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالبا على ظنه ; لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها ، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات ، وأيضا أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله : ( ويسخرون من الذين آمنوا ) وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة ، وتحملهم المشاق الواجبة ، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال والأحوال ، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه ، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ويسخرون من الذين آمنوا ) فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوها من الروايات ، قال الواحدي : قوله : ( ويسخرون ) مستأنف غير معطوف على (زين) ، ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي ; وذلك لأن الله أخبر عنهم بـ (زين) وهو ماض ، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال : ( ويسخرون من الذين آمنوا ) ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون : هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها [ ص: 8 ] ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة ، أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم ; لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه ، بل قال بعض المحققين : الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات ; فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاسا معدودة ، وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمرا متعينا ، فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية