الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين

[ ص: 214 ] الفاء للتعقيب : أي فعجل الله استئصال عاد ونجى هودا والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظاهر أن يكون النظم هكذا : فقطعنا دابر الذين كذبوا إلخ ونجينا هودا إلخ ، ولكن جرى النظم على خلاف مقتضى الظاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمن معه ، على نحو ما قررته في قوله تعالى فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا في قصة نوح المتقدمة ، وكذلك القول في تعريف الموصولية في قوله والذين معه . والذين معه هم من آمن من قومه ، فالمعية هي المصاحبة في الدين ، وهي معية مجازية ، قيل إن الله تعالى أمر هودا ومن معه بالهجرة إلى مكة قبل أن يحل العذاب بعاد ، وإنه توفي هنالك ودفن في الحجر ولا أحسب هذا ثابتا لأن مكة إنما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أن بين عاد وإبراهيم زمنا طويلا لأنه حكى عن شعيب قوله لقومه أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد فهو ظاهر في أن عادا وثمودا كانوا بعيدين من زمن شعيب وأن قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزمان ، لأن أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن علي أن قبر هود بحضرموت وهذا أقرب .

وقوله برحمة منا الباء فيه للسببية ، وتنكير رحمة للتعظيم ، وكذلك وصفها بأنها من الله للدلالة على كمالها ، و من للابتداء ، ويجوز أن تكون الباء للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرحمة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحل اللطف والرفق حيثما حلوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( منا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدا يؤذن بأن الرحمة غير منقطعة عنهم كقوله فإنك بأعيننا .

[ ص: 215 ] وتفسير قوله وقطعنا دابر الذين كذبوا نظير قوله تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا في سورة الأنعام ، وقد أرسل عليهم الريح الدبور فأفناهم جميعا ولم يبق منهم أحد . والظاهر أن الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأما الآية فلا تقتضي إلا انقراض نسل الذين كذبوا ونزل بهم العذاب والتعريف بطريق الموصولية تقدم في قوله وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا في قصة نوح آنفا ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .

وما كانوا مؤمنين عطف على كذبوا فهو من الصلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التكذيب والإشراك تعريضا بمشركي قريش ، ولموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حل بعاد من الاستئصال تطهيرا أول لبلاء العرب من الشرك ، وقطعا لدابر الضلال منها في أول عصور عمرانها ، إعدادا لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدعوة المحمدية فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية