الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل : وقد احتجوا بما ذكروه من أن الاستقراء دون القياس الذي هو قياس الشمول وأن قياس التمثيل دون الاستقراء فقالوا : إن قياس التمثيل لا يفيد إلا الظن وأن المحكوم عليه قد يكون جزئيا بخلاف الاستقراء فإنه قد يفيد اليقين والمحكوم عليه لا يكون إلا كليا . قالوا : وذلك أن الاستقراء هو الحكم على كلي بما تحقق في جزئياته فإن كان في جميع الجزئيات كان الاستقراء تاما كالحكم على المتحرك بالجسمية لكونها محكوما بها على جميع جزئيات المتحرك من الجماد والحيوان والنبات والناقص كالحكم على الحيوان بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل عند المضغ لوجود ذلك في أكثر جزئياته . ولعله فيما لم يستقرأ على خلافه [ ص: 197 ] كالتمساح والأول ينتفع به في اليقينيات بخلاف الثاني وإن كان منتفعا به في الجدليات .

                وأما " قياس التمثيل " : فهو الحكم على شيء بما حكم به على غيره بناء على جامع مشترك بينهما كقولهم : العالم موجود فكان قديما كالباري . أو هو جسم فكان محدثا كالإنسان وهو مشتمل على فرع وأصل وعلة وحكم فالفرع ما هو مثل العالم في هذا المثال والأصل ما هو مثل الباري أو الإنسان والعلة الموجود أو الجسم والحكم القديم أو المحدث .

                قالوا : ويفارق الاستقراء من جهة أن المحكوم عليه فيه قد يكون جزئيا والمحكوم عليه في الاستقراء لا يكون إلا كليا . قالوا : وهو غير مفيد لليقين . فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين فيما يعمهما اشتراكهما فيما حكم به على أحدهما ; إلا أن يبين أن ما به الاشتراك علة لذلك الحكم وكل ما يدل عليه فظني فإن المساعد على ذلك في العقليات عند القائلين به لا يخرج عن الطرد والعكس والسبر والتقسيم .

                أما الطرد والعكس : فلا معنى له غير تلازم الحكم والعلة وجودا وعدما ولا بد في ذلك من الاستقراء ولا سبيل إلى دعواه في الفرع إذ هو غير [ ص: 198 ] المطلوب فيكون الاستقراء ناقصا لا سيما ويجوز أن تكون علة الحكم في الأصل مركبة من أوصاف المشترك ومن غيرها ويكون وجودها في الأوصاف متحققا فيها فإذا وجد المشترك في الأصل ثبت الحكم لكمال علته وعند انتفائه فينتفي لنقصان العلة وعند ذلك فلا يلزم من وجود المشترك في الفرع ثبوت الحكم لجواز تخلف باقي الأوصاف أو بعضها .

                وأما " السبر والتقسيم " : فحاصله يرجع إلى دعوى حصر أوصاف الأصل في جملة معينة وإبطال كل ما عدا المستبقى . وهو أيضا غير يقيني لجواز أن يكون الحكم ثابتا في الأصل لذات الأصل لا لخارج وإلا لزم التسلسل ; وإن ثبت لخارج فمن الجائز أن يكون لغيرها أبدا ; وإن لم يطلع عليه مع البحث عنه وليس الأمر كذلك في العاديات فإنا لا نشك مع سلامة البصر وارتفاع الموانع في عدم بحر زئبق وجبل من ذهب بين أيدينا ; ونحن لا نشاهده ; وإن كان منحصرا فمن الجائز أن يكون معللا بالمجموع أو بالبعض الذي لا تحقق له في الفرع وثبوت الحكم مع المشترك في صورة مع تخلف غيره من الأوصاف المقارنة له في الأصل مما لا يوجب استقلاله بالتعليل لجواز أن يكون في تلك معللا بعلة أخرى ولا امتناع فيه وإن كان لا علة له سواه فجائز أن يكون علة لخصوصه لا لعمومه وإن بين أن ذلك الوصف يلزم لعموم ذاته الحكم فمع بعده يستغنى عن التمثيل .

                [ ص: 199 ] قالوا : والفراسة البدنية هي عين التمثيل غير أن الجامع فيها بين الأصل والفرع دليل العلة لا نفسها وهو المسمى في عرف الفقهاء بقياس الدلالة فإنها استدلال بمعلول العلة على ثبوتها ثم الاستدلال بثبوتها على معلولها الآخر . إذ مبناها على أن المزاج علة لخلق باطن وخلق ظاهر . فيستدل بالخلق الظاهر على المزاج ثم بالمزاج على الخلق الباطن كالاستدلال بعرض الأعلى على الشجاعة بناء على كونهما معلولي مزاج واحد كما يوجد مثل ذلك في الأسد ثم إثبات العلة في الأصل لا بد فيها من الدوران أو التقسيم كما تقدم وإن قدر أن علة الحكمين في الأصل واحدة فلا مانع من ثبوت أحدهما في الفرع بغير علة الأصل وعند ذلك فلا يلزم الحكم الآخر .

                هذا كلامهم .

                فيقال : تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل ; بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن فرق باطل . بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين . وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن . فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر . بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين . فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين . وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن . والذي يسمى في أحدهما حدا أوسط : هو في الآخر الوصف المشترك والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط : هو بيان تأثير الوصف [ ص: 200 ] المشترك بين الأصل والفرع . فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم . فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك .

                فإذا قلت : النبيذ حرام قياسا على الخمر لأن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة وهذا الوصف موجود في النبيذ ; كان بمنزلة قولك كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام . فالنتيجة : قولك : النبيذ حرام ; والنبيذ هو موضوعها وهو الحد الأصغر ; والحرام محمولها وهو الحد الأكبر ; والمسكر هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط : المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى .

                فإذا قلت : النبيذ حرام قياسا على خمر العنب ; لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو موجود في الفرع فثبت التحريم لوجود علته ; فإنما استدللت على تحريم النبيذ بالسكر وهو الحد الأوسط لكن زدت في قياس التمثيل ذكر الأصل الذي يثبت به الفرع ; وهذا لأن شعور النفس بنظير الفرع أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي . وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك لم يكن ذكر الأصل محتاجا إليه .

                والقياس لا يخلو : إما أن يكون بإبداء الجامع أو بإلغاء الفارق و " الجامع " إما العلة وإما دليلها وإما القياس بإلغاء الفارق فهنا إلغاء الفارق هو الحد الأوسط . [ ص: 201 ] فإذا قيل : هذا مساو لهذا . ومساوي المساوي مساو ; كانت المساواة هي الحد الأوسط ; وإلغاء الفارق عبارة عن المساواة .

                فإذا قيل : لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو متعذر فهو بمنزلة قولك هذا مساو لهذا . وحكم المساوي حكم مساويه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية