الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          باب صوم التطوع وأفضله صيام داود - عليه السلام - كان يصوم يوما ويفطر يوما ، ويستحب صيام أيام البيض وصوم الاثنين والخميس . ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال ، كان كصيام الدهر . وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ، ويوم عرفة كفارة سنتين ولا يستحب لمن كان بعرفة ، ويستحب صوم عشر ذي الحجة وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          باب صوم التطوع وفيه فضل عظيم ، وفي الحديث الصحيح : كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فيقول الله - تعالى - : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به وهذه الإضافة للتشريف والتعظيم .

                                                                                                                          ( وأفضله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ) لأمره - عليه السلام - عبد الله بن عمرو قال : هو أفضل الصيام قال : فإني أطيق أفضل من ذلك فقال : لا أفضل من ذلك متفق عليه ، وشرطه أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من القيام بحقوق الله - تعالى - وحقوق عباده اللازمة ، فإن أضعف عن شيء من ذلك كان تركه أفضل ، ولهذا أشار الصادق في حق داود - عليهما السلام - : ولا يفر إذا لاقى فمن حق النفس اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل .

                                                                                                                          ( ويستحب صيام ) ثلاثة أيام من كل شهر بغير خلاف نعلمه ، والأفضل أن يجعلها ( أيام البيض ) نص عليه ، لما روى أبو ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة . رواه الترمذي ، وحسنه سميت بيضا لابيضاض ليلها كله بالقمر ، وقيل : لأن الله - تعالى - تاب على آدم ، وبيض فيها صحيفته ، وحكى الماوردي : الثاني عشر بدل الخامس [ ص: 51 ] عشر ، وقيل : هي أول الشهر وعاشره وعشرونه ، ولم يتعرض أصحابنا باستحباب السود ، وهي الثامن والعشرون وتالياه ، وصرح الماوردي باستحبابه ، ( وصوم الاثنين والخميس ) نص عليه لما روى أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هما يومان تعرض الأعمال فيهما على رب العالمين ، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم . رواه أحمد والنسائي وسميا به ; لأن الأول ثاني الأسبوع ، والآخر خامسه ، ( ومن صام رمضان ، وأتبعه بست من شوال ) كذا في النسخ بغير تاء ، والمراد : الأيام ; لأن العرب تغلب في التاريخ الليالي على الأيام ( كان كصيام الدهر ) كذا أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعا من رواية سعد بن سعيد ضعفه أحمد ، وقواه آخرون ، وقال ابن عيينة ، وإليه مال أحمد : إنه موقوف ، ورواه أحمد من حديث جابر مرفوعا ، وكذا من حديث ثوبان ، وفيه ستة أيام بعد الفطر ، ولا شك أن الفضل حصل به بخلاف يوم الشك .

                                                                                                                          لا يقال : لا دلالة في الخبر على فضيلتها لكونه شبه صيامها بصيام الدهر ، وهو مكروه ; لأنه إنما كره صومه لما فيه من الضعف ، والتشبه بالتبتل ، ولولا ذلك لكان من أعظم الطاعات لاستغراقه الزمن بالعبادة ، والمراد بالخبر : التشبيه في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه ، كما في أيام البيض ، وتحصل فضيلتها بالتتابع والتفرق عند أحمد ، وظاهر " الخرقي " وغيره استحباب تتابعهما ، وبعضهم استحبها عقب العيد ، واستحبها جماعة ، وهو أظهر قال في " الفروع " : ولعله مراد أحمد ، والأصحاب ، لما فيه من المسارعة إلى الخير ، وروى الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة وفي " الفروع " احتمال أن [ ص: 52 ] الفضيلة تحصل بصومها في غير شوال ، وذكره القرطبي قال : لأن فضيلتها كون الحسنة بعشر أمثالها ، ويكون تقييده بشوال لسهولة الصوم فيه لاعتياده ، وفيه نظر . وظاهره أنه لا يستحب صيامها إلا لمن صام رمضان ، وقاله أحمد والأصحاب ، لكن ذكر في " الفروع " أن فضيلتها تحصل لمن صامها وقضاء رمضان وقد أفطر لعذر ، ولعله مراد الأصحاب ، وفيه شيء .

                                                                                                                          ( وصيام يوم عاشوراء ) بالمد في الأشهر ، وهو اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية قاله ابن دريد ، وهو اليوم العاشر من المحرم في قول أكثر العلماء ، ورواه الترمذي مرفوعا ، وصححه ، وقال ابن عباس هو التاسع ( كفارة سنة ) ماضية للخبر ، ويستحب معه صوم التاسع لما روى الخلال بإسناد جيد عن ابن عباس مرفوعا لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر واحتج به أحمد ، وقال إن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومهما . وظاهره أنه لا يكره إفراد العاشر بالصوم ، وهو المذهب ، وقال الشيخ تقي الدين : مقتضى كلام أحمد الكراهة ، وهي قول ابن عباس ، ولم يجب صومه في قول أصحابنا ، وعنه : وجب ثم نسخ ، اختاره الشيخ تقي الدين ، ومال إليه المؤلف ، وقاله الأصوليون .

                                                                                                                          فائدة : ينبغي فيه التوسعة على العيال ، سأل ابن منصور أحمد عنه قال : " نعم " . رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، وكان من أفضل زمانه أنه بلغه أن من ، وسع على عياله يوم عاشوراء ، وسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة : قد جربنا منذ خمسين سنة أو ستين فما رأينا إلا خيرا .

                                                                                                                          ( ويوم عرفة ) وهو التاسع من ذي الحجة سمي به للوقوف بعرفة ، وتعارفهم فيها ، وقيل : لأن جبريل عرف إبراهيم الحج ، وقيل : للرؤيا التي رآها ، وقيل : لتعارف [ ص: 53 ] آدم وحواء بها ( كفارة سنتين ) لما روى أبو قتادة مرفوعا قال : صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ، وقال في صيام عاشوراء : إني احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله . رواه مسلم ، ولعل مضاعفة التكفير على عاشوراء ; لأن نبينا - عليه السلام - أعطيه ، والمراد : به تكفير الصغائر . حكاه في " شرح مسلم " عن العلماء ، فإن لم يكن له صغائر ، رجي التخفيف من الكبائر ، فإن لم يكن رفعت له درجات ، ( ولا يستحب ) صومه ( لمن كان بعرفة ) لما روت أم الفضل أنها أرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه متفق عليه وأخبر ابن عمر أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ، فلم يصمه أحد منهم ، ولأنه يضعف عن الدعاء فكان تركه أفضل ، وقيل : لأنهم أضياف الله وزواره ، وكرهه جماعة للنهي عنه في حديث أبي هريرة . رواه أحمد ، وابن ماجه ، واختار الآجري أنه يستحب إلا أن يضعفه عن الدعاء ، وحكاه الخطابي عن إمامنا نحوه قال المجد : وهذا في غير المتمتع ، والقارن إذا عدما الهدي ، وسيأتي .

                                                                                                                          ( ويستحب صوم عشر ذي الحجة ) لما روى ابن عباس مرفوعا قال : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه - لأيام العشرة - قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء . رواه البخاري ، والمراد به : تسعة ، وإطلاق العشر عليها تغليبا ، وآكده التاسع ، ثم الثامن ، ووهم بعضهم فعكس . وظاهر " المحرر " أنهما سواء .

                                                                                                                          [ ص: 54 ] ( وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة ، وأضافه إلى الله - تعالى - تفخيما وتعظيما كناقة الله ، ولم يكثر - عليه السلام - الصوم فيه إما لعذر أو لم يعلم فضله إلا أخيرا ، والمراد : أفضل شهر تطوع به كاملا بعد رمضان شهر الله المحرم ; لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة ، وعشر ذي الحجة فالتطوع المطلق أفضله المحرم ، كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل ، وآكده عاشوراء ، ثم تاسوعاء ، ثم العشر الأول ، وهو أفضل الأشهر قاله الحسن ، ورجحه بعض الفقهاء .




                                                                                                                          الخدمات العلمية