الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قرأ الأعمش : واذكروا ، بالتشديد من الاذكار ، وقرأ ابن مسعود : وتذكروا ، وقرئ : وتذكروا ، بالتشديد ، بمعنى : وتذكروا ، وتقدم تفسير هذه الجمل في البقرة .

وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى روي في الحديث من طرق : أخذ من ظهر آدم ذريته ، وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره ، فأقروا بذلك والتزموه ، واختلفوا في كيفية الإخراج وهيئة المخرج والمكان والزمان ، وتقرير هذه الأشياء محلها ذلك الحديث والكلام عليه ، وظاهر هذه الآية ينافي ظاهر ذلك الحديث ، ولا تلتئم ألفاظه مع لفظ الآية ، وقد رام الجمع بين الآية والحديث جماعة بما هو متكلف في التأويل ، وأحسن ما تكلم به على هذه الآية ما فسره به الزمخشري ، قال : من باب التمثيل والتخييل ، ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم ، وقال : ألست بربكم ، وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا لوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب ، ونظيره قول الله عز وجل : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، وقول الشاعر :

[ ص: 421 ]

إذا قالت الأنساع للبطن الحقي تقول له ريح الصبا قرقار

ومعلوم أنه لا قول ثم ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى ، وأن تقولوا مفعول له ، أي : فعلنا ذلك من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول كراهة أن تقولوا يوم القيامة ، وتقديره : إنا كنا عن هذا غافلين لم ننبه عليه ، أو كراهة أن تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم ; لأن نصب الأدلة على التوحيد وما نبهوا عليه قائم معهم ، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء ، كما لا عذر لآبائهم في الشرك وأدلة التوحيد منصوبة لهم ، ( فإن قلت ) : بنو آدم وذرياتهم من هم ، قلت : عني ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا : عزير ابن الله ، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم ، والدليل على أنها في المشركين وأولادهم قوله تعالى : أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل والدليل على أنها في اليهود الآيات التي عطفت عليها هي ، والتي عطفت عليها وهي على نمطها وأسلوبها ، وذلك على قوله : واسألهم عن القرية وإذ قالت أمة منهم وإذ تأذن ربك وإذ نتقنا الجبل فوقهم واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ، انتهى كلام الزمخشري ، وهو بسط كلام من تقدمه ، قال ابن عطية : قال قوم : الآية مشيرة إلى هذا التأويل الذي في الدنيا ، وأخذ بمعنى أوجد وأن الإشهادين عند بلوغ المكلف ، وهو قد أعطي الفهم ونصبت له الصفة الدالة على الصانع ، ونحا لها الزجاج ، وهو معنى تحتمله الألفاظ ، انتهى ، والقول بظاهر الحديث يطرق إلى القول بالتناسخ فيجب تأويله ، ومفعول أخذ ذرياتهم ، قاله الحوفي : ويحتمل في قراءة الجميع أن يكون مفعول أخذ محذوفا لفهم المعنى ، وذرياتهم بدل من ضمير ظهورهم ، كما أن من ظهورهم بدل من قوله : بني آدم ، والمفعول المحذوف هو الميثاق ، كما قال : وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ، وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وتقدير الكلام : وإذ أخذ ربك من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد لله وإفراده بالعبادة ، واستعار أن يكون أخذ الميثاق من الظهر ، كأن الميثاق لصعوبته وللارتباط به والوقوف عنده شيء ثقيل يحمل على الظهر ، وهذا من تمثيل المعنى بالجزم ، وأشهدهم على أنفسهم بما نصب لهم من الأدلة قائلا : ألست بربكم ، قالوا : بلى ، وقرأ العربيان ونافع : ذرياتهم ، بالجمع ، وتقدم إعرابه ، وقرأ باقي السبعة : ذريتهم ، مفردا بفتح التاء ، ويتعين أن يكون مفعولا بأخذ ، وهو على حذف مضاف ، أي : ميثاق ذرياتهم ، وإنما كان أخذ الميثاق من ذرية بني آدم ; لأن بني آدم لصلبه لم يكن فيهم مشرك ، وإنما حدث الإشراك في ذريتهم .

شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، أي : قال الله : شهدنا عليكم ، أو قال الله والملائكة ، قاله السدي ، أو قالت الملائكة ، أو شهد بعضهم على بعض أقوال ، ومعنى " عن هذا " عن هذا الميثاق والإقرار بالربوبية .

أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ، ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله وعبادته لكانت لهم حجتان ، إحداهما : كنا غافلين ، والأخرى : كنا أتباعا لأسلافنا ، فكيف نهلك والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا ؟ فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج ، وقرأ أبو عمرو : أن يقولوا ، بالياء على الغيبة ، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب .

أفتهلكنا بما فعل المبطلون هذا من تمام القول الثاني ، أي : كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا ، والمعنى أنه تعالى أزال عنهم الاحتجاج بتركيب العقول فيهم وتذكيرهم ببعثة الرسل إليهم ، فقطع بذلك أعذارهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية