الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                ( الوجه السادس : لا ريب أن المقدمة الكبرى أعم من الصغرى أو مثلها ولا تكون أخص منها والنتيجة أخص من الكبرى أو مساوية لها وأعم من الصغرى أو مثلها ولا تكون أخص منها . والحس يدرك المعينات أولا ثم ينتقل منها إلى القضايا العامة . فيرى هذا الإنسان وهذا الإنسان وكل مما رآه حساس متحرك بالإرادة . فنقول العلم بالقضية العامة إما أن يكون بتوسط قياس والقياس لا بد فيه من قضية عامة . فلزم أن لا يعلم العام إلا بعام وذلك يستلزم الدور أو التسلسل . فلا بد أن ينتهي الأمر إلى قضية كلية عامة [ ص: 237 ] معلومة بالبديهة . وهم يسلمون ذلك . وإن أمكن علم القضية العام بغير توسط قياس أمكن علم الأخرى فإن كون القضية بديهية أو نظرية ليس وصفا لازما لها يجب استواء جميع الناس فيه . بل هو أمر نسبي إضافي بحسب حال الناس فمن علمها بلا دليل كانت بديهية له ومن احتاج إلى نظر واستدلال كانت نظرية له وهكذا سائر الأمور . فإذا كانت القضايا الكلية منها ما يعلم بلا دليل ولا قياس وليس لذلك حد في نفس القضايا ; بل ذلك بحسب أحوال بني آدم لم يمكن أن يقال فيما علمه زيد بالقياس إنه لا يمكن غيره أن يعلمه بلا قياس بل هذا نفي كاذب .

                ( الوجه السابع ) : قد تبين فيما تقدم أن قياس الشمول يمكن جعله قياس تمثيل وبالعكس .

                فإن قيل : من أين تعلم بأن الجامع يستلزم الحكم ؟ قيل : من حيث نعلم القضية الكبرى في قياس الشمول .

                فإذا قال القائل : هذا فاعل محكم لفعله وكل محكم لفعله فهو عالم . فأي شيء ذكر في علة هذه القضية الكلية فهو موجود في قياس التمثيل . وزيادة أن هناك أصلا يمثل به قد وجد فيه الحكم مع المشترك . وفي الشمول لم يذكر شيء من الأفراد التي ثبت الحكم فيها [ ص: 238 ] ومعلوم أن ذكر الكلي المشترك مع بعض أفراده أثبت في العقل من ذكره مجردا عن جميع الأفراد باتفاق العقلاء .

                ولهذا قالوا : إن العقل تابع للحس فإذا أدرك الحس الجزئيات أدرك العقل منها قدرا مشتركا كليا فالكليات تقع في النفس بعد معرفة الجزئيات المعينة فمعرفة الجزئيات المعينة من أعظم الأسباب في معرفة الكليات فكيف يكون ذكرها مضعفا للقياس وعدم ذكرها موجبا لقوته وهذه خاصة العقل ; فإن خاصة العقل معرفة الكليات بتوسط معرفة الجزئيات . فمن أنكرها أنكر خاصة عقل الإنسان ومن جعل ذكرها بدون شيء من محالها المعينة أقوى من ذكرها مع التمثيل بمواضعها المعينة كان مكابرا .

                وقد اتفق العقلاء على أن ضرب المثل مما يعين على معرفة الكليات وأنه ليس الحال إذا ذكر مع المثال كالحال إذا ذكر مجردا عنه . ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة بالعقل في الطب والحساب والصناعات والتجارات وغير ذلك وجد الأمر كذلك . والإنسان قد ينكر أمرا حتى يرى واحدا من جنسه فيقر بالنوع ويستفيد بذلك حكما كليا ولهذا يقول سبحانه : { كذبت قوم نوح المرسلين } { كذبت عاد المرسلين } ونحو ذلك . وكل من هؤلاء إنما جاءه رسول واحد . ولكن كانوا مكذبين بجنس الرسل لم يكن تكذيبهم بالواحد بخصوصه .

                [ ص: 239 ] ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف . فإذا رأى الشيئين المتماثلين علم أن هذا مثل هذا فجعل حكمهما واحدا كما إذا رأى الماء والماء والتراب والتراب والهواء والهواء ثم حكم بالحكم الكلي على القدر المشترك . وإذا حكم على بعض الأعيان ومثله بالنظير وذكر المشترك كان أحسن في البيان فهذا قياس الطرد . وإذا رأى المختلفين كالماء والتراب فرق بينهما وهذا قياس العكس .

                وما أمر الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم فيتقي تكذيب الرسل حذرا من العقوبة وهذا قياس الطرد . ويعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك وهذا قياس العكس وهو المقصود من الاعتبار بالمعذبين فإن المقصود أن ما ثبت في الفرع عكس حكم الأصل لا نظيره . والاعتبار يكون بهذا وبهذا . قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } وقال : { قد كان لكم آية في فئتين } إلى قوله { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } وقد قال تعالى : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } وقال : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } .

                " والميزان " فسره السلف بالعدل وفسره بعضهم بما يوزن به وهما متلازمان . وقد أخبر تعالى أنه أنزل ذلك كما أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط . فما يعرف [ ص: 240 ] به تماثل المتماثلات من الصفات والمقادير هو من الميزان . وكذلك ما يعرف به اختلاف المختلفات . فإذا علمنا أن الله تعالى حرم الخمر لما ذكره من أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء . ثم رأينا النبيذ يماثلها في ذلك كان القدر المشترك الذي هو العلة هو الميزان الذي أنزله الله في قلوبنا لنزن به هذا ونجعله مثل هذا . فلا نفرق بين المتماثلين . فالقياس الصحيح هو من العدل الذي أمر الله به . ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط . والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج . وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينة لم يكن بها اعتبار . كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة . ولا ريب أنه إذا حضر أحد الموزونين واعتبر بالآخر بالميزان كان أتم في الوزن من أن يكون الميزان وهو الوصف الكلي المشترك في العقل أي شيء حضر من الأعيان المفردة وزن بها مع مغيب الآخر .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية