الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
356 [ ص: 71 ] حديث رابع عشر لعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر

مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته في السفر حيث توجهت به ، قال عبد الله بن دينار : وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك .

التالي السابق


قال أبو عمر :

هكذا رواه جماعة رواة الموطأ فيما علمت ورواه يحيى بن مسلمة بن قعنب ، قال : أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على راحلته حيث توجهت به .

والصواب ما في الموطأ : مالك ، عن عبد الله بن دينار ، والله أعلم .

وهو حديث صحيح من جهة الإسناد ، روي عن ابن عمر من وجوه .

وروي عن جابر من وجوه .

وروي عن أنس أيضا من وجوه ، وتلقاه العلماء من السلف ، والخلف بالعمل والقبول في جملته إلا أنهم اختلفوا [ ص: 72 ] في بعض معانيه فالذي أجمعوا عليه منه أنه جائز لكل من سافر سفرا تقصر فيه ، أو في مثله الصلاة - أن يصلي التطوع على دابته وراحلته حيثما توجهت به يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع ويتشهد ويسلم ، وهو جالس على دابته ، وفي محمله إلا أن منهم جماعة يستحبون أن يفتتح المصلي صلاته على دابته في تطوعه إلى القبلة ويحرم بها ، وهو مستقبل القبلة ، ثم لا يبالي حيث توجهت به ، ومنهم من لم يستحب ذلك ، وقال : كما يجوز له أن يكون في سائر صلاته إلى غير القبلة ، فكذلك افتتاحه لها ; لأنه لو كان في الأرض لم يجز له الانحراف عن القبلة عامدا ، وهو بها عالم في شيء من صلاته .

ومن استحب افتتاح النافلة على الدابة إلى القبلة فحجته ما حدثناه عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا ربعي بن عبد الله بن الجارود ، قال : حدثني عمرو بن أبي الحجاج ، قال : حدثني الجارود بن أبي سبرة ، قال : حدثني أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة ، فكبر ، ثم صلى حيث وجهه ركابه .

[ ص: 73 ] حدثنا خلف بن قاسم ، حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري ، حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني سنة سبعين ومائتين ، حدثنا الشافعي ، أخبرنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به .

وقال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور : هكذا ينبغي أن يفعل من تنفل على راحلته في السفر .

واختلف أهل العلم في المعنى الذي فيه نزلت ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، فقال ابن عمر وطائفة : نزلت هذه الآية في الصلاة على الراحلة ، وقيل : نزلت في قول اليهود في القبلة ، وقيل : نزلت في قوم كانوا في سفر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء ، فلم يعرفوا القبلة فاجتهدوا وصلوا إلى جهات مختلفة ، ثم بان لهم خطؤهم فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأنزل الله عز وجل : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مضت صلاتكم .

وقول من قال : إنها نزلت في الصلاة على الراحلة - قول حسن أيضا تعضده السنة في ذلك .

قال أبو عمر :

ليس في حديث مالك هذا عن عبد الله بن دينار تخصيص التطوع من غيره ، وهو أمر لا خلاف فيه ، فلذلك أهمل مالك ذكره ، والله أعلم .

[ ص: 74 ] وكذلك رواه الثوري عن عبد الله بن دينار كما رواه مالك سواء ، وقد ذكر في هذا الحديث وغيره جماعة الرواة أن ذلك في التطوع دون المكتوبة ، وهو أمر مجتمع عليه ; لأنه لا يجوز لمصلي الفرض أن يدع القبلة عامدا بوجه من الوجوه إلا في شدة الخوف راجلا ، أو راكبا ، فإن لم يكن خائفا شديد الخوف هاربا لم يكن له أن يصلي راكبا .

وقد اختلف في صلاة الطالب في الخوف على ما قد ذكرناه في باب نافع ، وقال الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل : يصلي المريض المكتوبة على الدابة ، والراحلة ؟ ، فقال : لا يصلي أحد المكتوبة على الدابة مريض ، ولا غيره إلا في الطين ، والتطوع ، كذلك بلغنا يصلي ويومئ قال : وأما في الخوف ، فقد قال الله عز وجل : ( فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ) .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا حكم الصلاة في الطين في باب يزيد بن الهادي ، والحمد لله .

وقد اختلف قول مالك في المريض يصلي على محمله ، فمرة قال : لا يصلي على ظهر البعير فريضة ، وإن اشتد مرضه حتى لا يقدر أن يجلس لمرض إلا بالأرض ، ومرة قال : إذا [ ص: 75 ] كان ممن لا يصلي بالأرض إلا إيماء ، فليصل على البعير بعد أن يوقف له ويستقبل القبلة .

وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد صحيح ، ولا مريض - أن يصلي إلى غير القبلة ، وهو عالم بذلك في الفريضة إلا في الخوف الشديد خاصة .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا أبو يحيى بن أبي مسرة ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا عبد المجيد ، عن أبي جريج ، قال : أخبرني موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي على ناقته في السفر حيث توجهت به في غير المكتوبة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد بن الجهم السمري ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، قال : كان عبد الله بن عمر يصلي على راحلته حيث توجهت به تطوعا ، وقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن صالح ، قال : حدثنا [ ص: 76 ] ابن وهب ، قال : أخبرنا يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبح على الراحلة أي وجه توجه , ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة .

وأخبرنا سعيد بن نصر و عبد الوارث بن سفيان ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبد الله بن روح المدائني ، قال : حدثنا شبابة بن سوار ، قال : حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر الشامي ، قال : حدثنا القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ونافع ، كلهم عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على دابته حيث توجهت به تطوعا .

وأخبرنا سعيد بن نصر وعبد الوارث ، قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن جابر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته نحو المشرق ، فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، قال : حدثنا أبو صالح [ ص: 77 ] محبوب بن موسى الفراء ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجة فجئت ، وهو يصلى على راحلته نحو المشرق يومئ إيماء ؛ السجود أخفض من الركوع ، قال : فسلمت ، فلم يرد علي ، فلما سلم ، قال : ما منعني أن أرد عليك إلا أني كنت أصلي .

واختلف الفقهاء في المسافر سفرا لا تقصر في مثله الصلاة : هل له أن يتنفل على راحلته ودابته أم لا ؟ ، فقال مالك وأصحابه ، والثوري : لا يتطوع على الراحلة إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة .

وحجتهم في ذلك أن الأسفار التي حكي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتطوع فيها على راحلته كانت مما تقصر فيها الصلاة ، فالواجب أن لا يصلي إلى غير القبلة إلا في الحال التي وردت بها السنة لا تتعدى .

وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والحسن بن حي و الليث بن سعد ، وداود بن علي : يجوز التطوع على الراحلة خارج المصر في كل سفر ، وسواء كان مما تقصر فيه الصلاة ، أو لا تقصر .

وحجتهم : أن الآثار في هذا الباب ليس في شيء منها تخصيص سفر من سفر , فكل سفر جائز ذلك فيه إلا أن يخص شيء من الأسفار مما يجب التسليم له .

[ ص: 78 ] وقال أبو يوسف : يصلي في المصر على الدابة بالإيماء لحديث يحيى بن سعيد ، عن أنس بن مالك أنه صلى على حمار في أزقة المدينة يومئ إيماء .

وقال الطبري : يجوز لكل راكب وماش حاضرا كان ، أو مسافرا - أن يتنفل على دابته وراحلته وعلى رجليه . وحكى بعض أصحاب الشافعي أن مذهبهم جواز التنفل على الدابة في الحضر والسفر .

وقال الأثرم : قيل لأحمد بن حنبل : الصلاة على الدابة في الحضر ، فقال : أما في السفر فقد سمعنا وما سمعت في الحضر .

وقال ابن القاسم : من تنفل في محمله تنفل جالسا قيامه تربع ، ويركع واضعا يديه على ركبتيه ، ثم يرفع رأسه . قال : عبد العزيز بن أبي سلمة : ويزيل يديه ، ثم يثني رجليه ويومئ لسجوده ، فإن لم يقدر أومأ متربعا ، وقد ذكرنا حكم صلاة المريض في باب إسماعيل ، والحمد لله وبه التوفيق .




الخدمات العلمية