الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق ، فقدم الوالدين ; وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف ، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ، ولذلك قال تعالى : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين ) [الإسراء : 23] وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين ; لأن [ ص: 22 ] الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة ، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة ، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما ; فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين ، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض ، والترجيح لا بد له من مرجح ، والقرابة تصلح أن تكون سببا للترجيح من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن القرابة مظنة المخالطة ، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر ، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كان اطلاع الفقير على الغني أتم ، واطلاع الغني على الفقير أتم ، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه لو لم يراع جانب الفقير ، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره ، وذلك عار وسيئة في حقه ، فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعا للضرر عن النفس .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه ، والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى ; وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم ، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب , وأشرف على الضياع . ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين ، وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى ; لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى . ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يقع في الاحتياج والفقر ، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال : ( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ) أي : وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلبا لجزيل ثوابه وهربا من أليم عقابه فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالما ، يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه ، كما قال : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) [آل عمران : 195] وقال : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [الزلزلة : 7] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية