الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما الدليل على جواز ذلك : فالسنة والإجماع والقياس .

              أما السنة فما تقدم من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر على أن [ ص: 252 ] يعتملوها من أموالهم ، ولم يدفع إليهم بذرا ، وكما عامل المهاجرون والأنصار على أن البذر من عندهم ، قال حرب الكرماني : حدثنا محمد بن نصر ، حدثنا حسان بن إبراهيم عن حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي حكيم : " أن عمر بن الخطاب أجلى أهل نجران وأهل فدك وأهل خيبر ، واستعمل يعلى [ بن منية ] فأعطى العنب والنخل على أن لعمر الثلثين ولهم الثلث ، وأعطى البياض - يعني بياض الأرض - على : إن كان البذر والبقر والحديد من عند عمر ، فلعمر الثلثان ولهم الثلث ، وإن كان منهم فلعمر الشطر ، ولهم الشطر " فهذا عمر - رضي الله عنه - ويعلى [ بن منية ] عامله صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عمل في خلافته بتجويز كلا الأمرين : أن يكون البذر من رب الأرض ، وأن يكون من العامل ، وقال حرب : حدثنا أبو معن ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن الحارث بن حصيرة الأزدي عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع بن محارب قال : " جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إن فلانا أخذ أرضا فعمل فيها وفعل ، فدعاه علي فقال : ما هذه الأرض التي أخذت ؟ فقال : أرض أخذتها أكري أنهارها وأعمرها وأزرعها ، فما أخرج الله من شيء فلي النصف وله النصف ، فقال : لا بأس بهذا " فظاهره : أن البذر من عنده ، ولم ينهه علي عن ذلك ، ويكفي إطلاق سؤاله ، وإطلاق علي الجواب .

              وأما القياس : فقد قدمنا أن هذه المعاملة نوع من الشركة ، [ ص: 253 ] ليست من الإجارة الخاصة . وإن جعلت إجارة فهي من الإجارة العامة التي تدخل فيها الجعالة والسبق والرمي . وعلى التقديرين : فيجوز أن يكون البذر منهما ، وذلك أن البذر في المزارعة ليس من الأصول التي ترجع إلى ربها ، كالثمن في المضاربة ، بل البذر يتلف كما تتلف المنافع ، وإنما ترجع الأرض أو بدن البقرة والعامل . فلو كان البذر مثل رأس المال ، لكان الواجب أن يرجع مثله إلى مخرجه ، ثم يقتسمان الفضل ، وليس الأمر كذلك ، بل يشتركان في جميع الزرع ، فظهر أن الأصول فيها من أحد الجانبين هي الأرض بمائها وهوائها ، وبدن العامل والبقر [ وأكثر الحرث والبذر ] يذهب كما تذهب المنافع ، وكما تذهب أجزاء من الماء والهواء والتراب ، فيستحيل زرعا ، والله سبحانه يخلق الزرع من نفس الحب والتراب والماء والهواء كما يخلق الحيوان من ماء الأبوين ، بل ما يستحيل في الزرع من أجزاء الأرض أكثر مما يستحيل من الحب ، والحب يستحيل فلا يبقى ، بل يفلقه الله ويحيله كما يحيل أجزاء الماء والهواء ، وكما يحيل المني وسائر مخلوقاته من الحيوان ، والمعدن والنبات ، [ ولما ] وقع ما وقع من رأي كثير من الفقهاء ، اعتقدوا أن الحب والنوى في الزرع والشجر : هو الأصل ، والباقي تبع ، حتى قضوا في مواضع بأن يكون الزرع والشجر لرب النوى والحب مع قلة قيمته ، ولرب الأرض أجرة أرضه .

              والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قضى بضد هذا ، حيث قال : " من زرع في أرض [ ص: 254 ] قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته " ، فأخذ أحمد وغيره من فقهاء الحديث بهذا الحديث . وبعض من أخذ به يرى أنه خلاف القياس ، وأنه من صور الاستحسان ، وهذا لما انعقد في نفسه من القياس المتقدم ، وهو أن الزرع تبع للبذر ، والشجر تبع للنوى ، وما جاءت به السنة هو القياس الصحيح الذي تدل عليه الفطرة ، فإن إلقاء الحب في الأرض بمنزلة إلقاء المني في الرحم سواء ، [ ولهذا سمى الله تعالى النساء حرثا في قوله تعالى : ( نساؤكم حرث لكم ) كما سمى الأرض المزروعة حرثا ، والمغلب في ملك الحيوان إنما هو جانب الأم ] ولهذا تبع الولد الآدمي أمه في الحرية والرق دون أبيه ، ويكون الجنين البهيم لمالك الأم ، دون مالك الفحل الذي نما عن عسبه . وذلك لأن الأجزاء التي استمدها من الأم أضعاف الأجزاء التي استمدها من الأب ، وإنما للأب حق الابتداء فقط ، ولا ريب أنه مخلوق منهما جميعا ، وكذلك الحب والنوى ، فإن الأجزاء التي خلق منها الشجر والزرع أكثرها من التراب والماء والهواء . وقد يؤثر ذلك في الأرض [ فتضعف ] بالزرع فيها ، لكن لما كانت هذه الأجزاء تستخلف دائما ، فإن الله سبحانه لا يزال يمد الأرض بالماء والهواء وبالتراب ، إما مستحيلا من غيره ، وإما بالموجود ، ولا يؤثر في الأرض نقص الأجزاء الترابية شيئا ، إما للخلف بالاستحالة ، وإما للكثرة ، ولهذا صار يظهر أن أجزاء الأرض في معنى المنافع ، بخلاف الحب والنوى الملقى فيها ، فإنه عين ذاهبة غير مستخلفة ولا يعوض [ ص: 255 ] عنها . لكن هذا القدر لا يوجب أن يكون البذر هو الأصل فقط ، فإن العامل هو وبقره لا بد له مدة العمل من قوت وعلف يذهب أيضا ، ورب الأرض لا يحتاج إلى مثل ذلك . ولذلك اتفقوا على أن البذر لا يرجع إلى ربه كما يرجع في القراض ، ولو جرى عندهم مجرى الأصول لرجع .

              فقد تبين أن هذه المعاملة اشتملت على ثلاثة أشياء: أصول باقية : وهي الأرض ، وبدن العامل والبقر ، والحديد ، ومنافع فانية ، وأجزاء فانية أيضا ، وهي البذر وبعض أجزاء الأرض وبعض أجزاء العامل وبقره ، فهذه الأجزاء الفانية كالمنافع الفانية سواء ، فتكون الخيرة إليهما فيمن يبذل هذه الأجزاء ، ويشتركان على أي وجه شاءا ما لم يفض إلى بعض ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنواع الغرر أو الربا وأكل المال بالباطل ، ولذا جوز أحمد سائر أنواع المشاركات التي تشبه المساقاة والمزارعة ، مثل أن يدفع دابته أو سفينته أو غيرهما إلى من يعمل عليها والأجرة بينهما .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية