الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان مكان الإحرام فمكان الإحرام هو المسمى بالميقات فنحتاج إلى بيان المواقيت ، وما يتعلق بها من الأحكام فنقول : وبالله التوفيق المواقيت تختلف باختلاف الناس .

                                                                                                                                والناس في حق المواقيت أصناف ثلاثة [ ص: 164 ]

                                                                                                                                صنف منهم يسمون أهل الآفاق ، وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي خمسة ، كذا روي في الحديث { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم ، ولأهل العراق ذات عرق ، وقال : صلى الله عليه وسلم هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة } .

                                                                                                                                وصنف منهم يسمون أهل الحل ، وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم كأهل بستان بني عامر وغيرهم ، وصنف منهم يسمون أهل الحرم ، وهم أهل مكة ، أما الصنف الأول فميقاتهم ما وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو العمرة إلا محرما ; لأنه لما وقت لهم ذلك فلا بد وأن يكون الوقت مقيدا ، وذلك إما المنع من تقديم الإحرام عليه ، وإما المنع من تأخيره عنه ، والأول ليس بمراد لإجماعنا على جواز تقديم الإحرام عليه فتعين الثاني ، وهو المنع من تأخير الإحرام عنه .

                                                                                                                                وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا سأله ، وقال : إني أحرمت بعد الميقات ، فقال له : ارجع إلى الميقات فلب ، وإلا فلا حج لك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما } ، وكذلك لو أراد بمجاوزة هذه المواقيت دخول مكة لا يجوز له أن يجاوزها إلا محرما ، سواء أراد بدخول مكة النسك من الحج أو العمرة أو التجارة أو حاجة أخرى عندنا ، وقال الشافعي : إن دخلها للنسك وجب عليه الإحرام ، وإن دخلها لحاجة جاز دخوله من غير إحرام ، وجه قوله أنه تجوز السكنى بمكة من غير إحرام فالدخول أولى ; لأنه دون السكنى ، .

                                                                                                                                ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ألا إن مكة حرام منذ خلقها الله تعالى لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة } الحديث .

                                                                                                                                والاستدلال به من ثلاثة أوجه : أحدها بقوله : صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                ألا إن مكة حرام ، والثاني بقوله : لا تحل لأحد بعدي ، والثالث بقوله : ثم عادت حراما إلى يوم القيامة مطلقا من غير فصل .

                                                                                                                                وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يحل دخول مكة بغير إحرام } ، ولأن هذه بقعة شريفة لها قدر وخطر عند الله تعالى ، فالدخول فيها يقتضي التزام عبادة إظهارا لشرفها على سائر البقاع ، وأهل مكة بسكناهم فيها جعلوا معظمين لها بقيامهم بعمارتها وسدانتها وحفظها وحمايتها ; لذلك أبيح لهم السكنى ، وكلما قدم الإحرام على المواقيت هو أفضل .

                                                                                                                                وروي عن أبي حنيفة أن ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الإحرام ، وقال الشافعي : الإحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أن الإحرام ركن فيكون من أفعال الحج ، ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات ; لأن أفعال الحج لا يجوز تقديمها على أوقاتها ، وتقديم الإحرام على الميقات جائز بالإجماع إذا كان في أشهر الحج ، والخلاف في الأفضلية دون الجواز ، ولنا قوله تعالى { : وأتموا الحج والعمرة لله }

                                                                                                                                وروي عن علي ، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وروي عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، ووجبت له الجنة ، } هذا إذا قصد مكة من هذه المواقيت ، فأما إذا قصدها من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت ; لأنه إذا حاذى ذلك الموضع ميقاتا من المواقيت صار في حكم الذي يحاذيه في القرب من مكة ، ولو كان في البحر فصار في موضع لو كان مكان البحر بر لم يكن له أن يجاوزه إلا بإحرام ، فإنه يحرم .

                                                                                                                                كذا قال أبو يوسف ، ولو حصل في شيء من هذه المواقيت من ليس من أهلها فأراد الحج أو العمرة أو دخول مكة ، فحكمه حكم أهل ذلك الميقات الذي حصل فيه لقول النبي : صلى الله عليه وسلم { هن لأهلهن ، ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة } .

                                                                                                                                وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : { من وقتنا له وقتا فهو له ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج أو العمرة } ، ولأنه إذا مر به صار من أهله فكان حكمه في المجاوزة حكمهم ، ولو جاوز ميقاتا من هذه المواقيت من غير إحرام إلى ميقات آخر جاز له ; لأن الميقات الذي صار إليه صار ميقاتا له ، لما روينا من الحديثين إلا أن المستحب أن يحرم من الميقات الأول ، هكذا روي عن أبي حنيفة أنه قال في غير أهل المدينة : إذا مروا على المدينة [ ص: 165 ] فجاوزوها إلى الجحفة فلا بأس بذلك ، وأحب إلي أن يحرموا من ذي الحليفة ; لأنهم إذا حصلوا في الميقات الأول لزمهم محافظة حرمته فيكره لهم تركها ، ولو جاوز ميقاتا من المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة فجاوزه بغير إحرام ثم عاد قبل أن يحرم وأحرم من الميقات ، وجاوزه محرما لا يجب عليه دم بالإجماع ; لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم ، وأحرم التحقت تلك المجاوزة بالعدم ، وصار هذا ابتداء إحرام منه ، ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات ، ولبى سقط عنه الدم ، وإن لم يلب لا يسقط ، وهذا قول أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يسقط لبى أو لم يلب ، وقال زفر : لا يسقط لبى أو لم يلب ، وجه قول زفر : أن وجوب الدم بجنايته على الميقات بمجاوزته إياه من غير إحرام ، وجنايته لا تنعدم بعوده ، فلا يسقط الدم الذي وجب ، وجه قولهما أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما ، لا في إنشاء الإحرام منه ، بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله ، وجاوز الميقات ، ولم يلب لا شيء عليه ، فدل أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما ، لا في إنشاء الإحرام منه ، وبعد ما عاد إليه محرما فقد جاوزه محرما ، فلا يلزمه الدم ولأبي حنيفة ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال للذي أحرم بعد الميقات : ارجع إلى الميقات فلب ، وإلا فلا حج لك أوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها ، ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية ، فلا يقع تدارك الفائت إلا بالتلبية ، بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله ، ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام ; لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتا له .

                                                                                                                                وقد لبى منه فلا يلزمه تلبية ، وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه ، وهو الميقات المعهود ، وما قاله زفر إن الدم إنما وجب عليه بجنايته على الميقات مسلم ، لكن لما عاد قبل دخوله في أفعال الحج فما جنى عليه ، بل ترك حقه في الحال فيحتاج إلى التدارك .

                                                                                                                                وقد تداركه بالعود إلى التلبية ، ولو جاوز الميقات بغير إحرام فأحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين ، أو وقف بعرفة ، أو كان إحرامه بالحج ثم عاد إلى الميقات : لا يسقط عنه الدم ; لأنه لما اتصل الإحرام بأفعال الحج تأكد عليه الدم ، فلا يسقط بالعود ، ولو عاد إلى ميقات آخر غير الذي جاوزه قبل أن يفعل شيئا من أفعال الحج سقط عنه الدم ، وعوده إلى هذا الميقات وإلى ميقات آخر سواء ، وعلى قول زفر لا يسقط على ما ذكرنا .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه فصل في ذلك تفصيلا فقال : إن كان الميقات الذي عاد إليه يحاذي الميقات الأول أو أبعد من الحرم يسقط عنه الدم ، وإلا فلا ، والصحيح جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا أن كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله ، ولغير أهله بالنص مطلقا عن اعتبار المحاذاة ، ولو لم يعد إلى الميقات لكنه أفسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة إن كان إحرامه بالعمرة أو قبل الوقوف بعرفة ، إن كان إحرامه بالحج سقط عنه ذلك الدم ; لأنه يجب عليه القضاء ، وانجبر ذلك كله بالقضاء كمن سها في صلاته ثم أفسدها فقضاها أنه لا يجب عليه سجود السهو ، وكذلك إذا فاته الحج فإنه يتحلل بالعمرة ، وعليه قضاء الحج ، وسقط عنه ذلك الدم عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر لا يسقط ، ولو جاوز الميقات يريد دخول مكة أو الحرم من غير إحرام يلزمه إما حجة وإما عمرة ; لأن مجاوزة الميقات على قصد دخول مكة أو الحرم بدون الإحرام لما كان حراما كانت المجاوزة التزاما للإحرام دلالة ، كأنه قال : لله تعالى علي إحرام ، ولو قال ذلك يلزمه حجة أو عمرة ، كذا إذا فعل ما يدل على الالتزام كمن شرع في صلاة التطوع ثم أفسدها يلزمه قضاء ركعتين ، كما إذا قال : لله تعالى علي أن أصلي ركعتين ، فإن أحرم بالحج أو بالعمرة قضاء لما عليه من ذلك لمجاوزته الميقات ، ولم يرجع إلى الميقات ، فعليه دم ; لأنه جنى على الميقات لمجاوزته إياه من غير إحرام ، ولم يتداركه فيلزمه الدم جبرا ، فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم أحرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخوله مكة بغير إحرام ، أجزأه في ذلك ميقات أهل مكة في الحج بالحرم ، وفي العمرة بالحل ; لأنه لما أقام بمكة صار في حكم أهل مكة فيجزئه إحرامه من ميقاتهم ، فإن كان حين دخل مكة عاد في تلك السنة إلى الميقات فأحرم بحجة عليه من حجة الإسلام أو حجة نذر أو عمرة نذر ، سقط ما وجب عليه لدخوله مكة بغير إحرام استحسانا ، والقياس أن لا يسقط إلا أن ينوي ما وجب عليه لدخول مكة ، وهو قول زفر ، ولا خلاف في أنه إذا تحولت السنة ثم عاد إلى الميقات ثم أحرم بحجة الإسلام ، أنه لا يجزئه عما لزمه إلا بتعيين النية .

                                                                                                                                وجه القياس : أنه قد وجب عليه حجة أو [ ص: 166 ] عمرة بسبب المجاوزة ، فلا يسقط عنه بواجب آخر كما لو نذر بحجة أنه لا تسقط عنه بحجة الإسلام .

                                                                                                                                وكذا لو فعل ذلك بعد ما تحولت السنة ، وجه الاستحسان أن لزوم الحجة أو العمرة ثبت تعظيما للبقعة ، والواجب عليه تعظيمها بمطلق الإحرام لا بإحرام على حدة ، بدليل أنه يجوز دخولها ابتداء بإحرام حجة الإسلام ، فإنه لو أحرم من الميقات ابتداء بحجة الإسلام أجزأه ذلك عن حجة الإسلام ، وعن حرمة الميقات ، وصار كمن دخل المسجد وأدى فرض الوقت ، قام ذلك مقام تحية المسجد .

                                                                                                                                وكذا لو نذر أن يعتكف شهر رمضان فصام رمضان معتكفا جاز ، وقام صوم رمضان مقام الصوم الذي هو شرط الاعتكاف ، بخلاف ما إذا تحولت السنة ; لأنه لما لم يقض حق البقعة حتى تحولت السنة صار مفوتا حقها فصار ذلك دينا عليه ، وصار أصلا ، ومقصودا بنفسه ، فلا يتأدى بغيره كمن نذر أن يعتكف شهر رمضان فلم يصم ، ولم يعتكف حتى قضى شهر رمضان مع الاعتكاف جاز ، فإن صام رمضان ، ولم يعتكف فيه حتى دخل شهر رمضان القابل فاعتكف فيه قضاء عما عليه لا يجوز ; لأن الصوم صار أصلا ومقصودا بنفسه كذا هذا ، وكذلك لو أحرم بعمرة منذورة في السنة الثانية لم يجزه ; لأنه يكره تأخير العمرة إلى يوم النحر ، وأيام التشريق ، فإذا صار إلى وقت يكره تأخير العمرة إليه صار تأخيرها كتفويتها ، فإن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج فعاد إلى أهله ثم عاد إلى مكة فدخلها بغير إحرام ، وجب عليه لكل واحد من الدخولين حجة أو عمرة ; لأن كل واحد من الدخولين سبب الوجوب .

                                                                                                                                فإن أحرم بحجة الإسلام جاز عن الدخول الثاني إذا كان في سنته ، ولم يجز عن الدخول الأول ; لأن الواجب قبل الدخول الثاني صار دينا ، فلا يسقط إلا بتعيين النية ، هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير إحرام ، فأما إذا لم يرد ذلك ، وإنما أراد أن يأتي بستان بني عامر أو غيره لحاجة فلا شيء عليه ; لأن لزوم الحج أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة وتمييزا لها من بين سائر البقاع في الشرف والفضيلة ، فيصير ملتزما للإحرام منه ، فإذا لم يردالبيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شيء ، فإن حصل في البستان أو ما وراءه من الحل ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام ، فله ذلك ; لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد من أهل البستان ، ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحاجة من غير إحرام فكذا له ، وقيل : إن هذا هو الحيلة في إسقاط الإحرام عن نفسه .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف : أنه لا يسقط عنه الإحرام ، ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا ; لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن في حقه إلا بنية مدة الإقامة ، وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية