الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة يدعو بها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة تستجاب له فأريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة وفي رواية لمسلم دعا بها في أمته زاد في رواية فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا .

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الرابع) وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكل نبي دعوة يدعو بها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة وعن همام عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة تستجاب له فأريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) أخرجه البخاري في الدعوات من صحيحه من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وذكر ابن عبد البر أنه هكذا عند رواة الموطأ ورواه ابن وهب وأيوب بن سويد عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال وهما إسنادان صحيحان لمالك انتهى ورواية ابن وهب هذه رواها مسلم في الإيمان من صحيحه وروى الحديث مسلم أيضا من طريق [ ص: 118 ] عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية وأبي صالح وأبي زرعة بن عمرو بن جريج ومحمد بن زياد كلهم عن أبي هريرة وفي رواية أبي صالح فعجل كل نبي دعوته وفيها فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا .

                                                            (الثانية) قال القاضي عياض يقال وكم من دعوة استجيبت للرسل ولنبينا عليه الصلاة والسلام فما معنى هذا ؟ فيقال إن المراد والله أعلم أن لهم دعوة هم من استجابتها على يقين وعلم بإعلام الله تعالى لهم ذلك . وغيرها من الدعوات بمعنى الطمع في الاستجابة وبين الرجاء والخوف ويبينه قوله في رواية أبي صالح عن أبي هريرة لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي الحديث أو تكون هذه الدعوة لكل نبي مخصوصة بأمته ويدل عليه رواية محمد بن زياد عن أبي هريرة في هذا الحديث لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيبت له الحديث ونحوه في حديث أنس وجابر . انتهى ورجح النووي الأول فقال معناها أن لكل نبي دعوة متيقنة الإجابة وعلى يقين من إجابتها وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب ثم ذكر الثاني احتمالا عن القاضي عياض .

                                                            (الثالثة) إن قلت قد ذكروا أن الشفاعات الأخروية خمس :

                                                            (أحدها) في الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب .

                                                            (الثانية) في إدخال قوم الجنة بغير حساب .

                                                            (الثالثة) الشفاعة لقوم استوجبوا النار أن لا يدخلوها . 3

                                                            (الرابعة) الشفاعة في إخراج قوم من النار بعد دخولها .

                                                            (الخامسة) الشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وزيد قسم سادس وهو الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض أهل النار كما وقع لأبي طالب فأي شفاعة ادخرها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ؟ أما الأولى فلا تختص بهم بل هي لإراحة الجمع كلهم وهي المقام المحمود وكذلك باقي الشفاعات الظاهر أنه يشاركهم فيه بقية الأمم قلت يحتمل أن المراد الشفاعة العظمى التي للإراحة من هول الموقف وهي وإن كانت غير مختصة بهذه الأمة لكن هم الأصل فيها وغيرهم تبع لهم ولهذا كان اللفظ المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها أنه قال يا رب أمتي أمتي فدعا فيهم فأجيبت [ ص: 119 ] وكان غيرهم تبعا لهم في ذلك ويحتمل أن الشفاعة الثانية وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب تختص بهذه الأمة فإن الحديث الوارد فيها يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفا الحديث ولم ينقل لنا ذلك في بقية الأمم ويحتمل أن المراد مطلق الشفاعة المشترك بين الشفاعات الخمسة ، وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو في بعضها لا ينافي أن يكون عليه الصلاة والسلام ادخر دعوته شفاعة لأمته فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم بل تشفع لهم أنبياؤهم ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعا لهم كما تقدم مثله في الشفاعة العظمى ويحتمل أن يشفع لغيرهم لا تبعا لهم ولا تضييق في ذلك فإذا شفع لهم فقد حصل ادخار الشفاعة لهم وإن شفع لغيرهم والله أعلم .

                                                            (الرابعة) فيه رد على المعتزلة في إنكارهم الشفاعة الثانية والثالثة والرابعة وإنما اعترفوا بالأولى والخامسة فقط وهم يجيبون بحمل هذا الحديث عليهما أو على أحدهما لكن قد جاءت الأحاديث الصحيحة الصريحة بإثبات ما أنكروه والله أعلم .



                                                            (الخامسة) وفيه بيان كمال شفقة النبي عليه الصلاة والسلام على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر إلى مصالحهم المهمة فأخر عليه الصلاة والسلام دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجتهم .

                                                            (السادسة) قوله إن شاء الله أتى به النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التبرك والامتثال لقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله



                                                            (السابعة) قوله في إحدى الروايتين في الآخرة وفي الأخرى يوم القيامة يدل على أن يوم القيامة من الآخرة وروى القاسم بن الفضل الحداني عن زياد بن مخراق قال كتب الحجاج بن يوسف إلى عثمان بن حيان : سل عكرمة مولى ابن عباس عن يوم القيامة أمن الدنيا هو أو من الآخرة ؟ فسأله فقال عكرمة صدر هذا اليوم من الدنيا وآخره من الآخرة حكاه الحافظ أبو الحجاج المزي في التهذيب فإن صح ذلك فلعل الوقت الذي تقع فيه الشفاعة من يوم القيامة هو آخره الذي هو من الآخرة والله أعلم .



                                                            (الثامنة) قوله في بعض طرقه فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا فيه دليل لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لا يخلد في النار وإن كان مصرا على الكبائر [ ص: 120 ] وأدلة ذلك كثيرة شهيرة .

                                                            (التاسعة) إن قلت ما الجمع بين هذا وبين ما ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال : فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله والمراد بالقائل لا إله إلا الله من مات عليها معتقدا لها فهو الذي مات لا يشرك بالله شيئا فإذا لم يكن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف قال إن هؤلاء تنالهم شفاعته ؟ قلت قد قيد النبي صلى الله عليه وسلم من تناله شفاعته مع كونه مات غير مشرك بالله تعالى بكونه من أمته والذي جاء فيه أنه ليس إليه ليس فيه تقييده بهذه الأمة فحصل الجمع بينهما بأن الذي تناله شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم هم موحدو هذه الأمة والذي استأثر به الرب جل جلاله موحدو غير هذه الأمة والله أعلم .

                                                            (العاشرة) ظاهر الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة فذلك اليوم يدعو ويشفع ويحتمل أن المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها وأما طلبها فحاصل من النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا .



                                                            (الحادية عشرة) كره بعضهم للعبد أن يسأل الله تعالى أن يرزقه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لكونها لا تكون إلا للمذنبين وقال النبي صلى الله عليه وسلم شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي رواه الترمذي وابن ماجه من حديث جابر وقال جابر من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشفاعة .

                                                            وروى ابن عبد البر في التمهيد عن أسماء بنت عميس أنها قالت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني ممن تشفع له يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تخمشك النار فإن شفاعتي لكل هالك من أمتي تخمشه النار وقال القاضي عياض لا يلتفت إلى هذا القول فإن الشفاعة قد تكون لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق أن يكون من الهالكين قال ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة لأنها لأصحاب الذنوب وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف الصالح فقد عرف بالنقل المستفيض سؤالهم شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها انتهى .




                                                            الخدمات العلمية