الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما شرط وجوبه فالقدرة عليه ; لأن الله تعالى أوجب ما استيسر من الهدي ، ولا وجوب إلا على القادر ، فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله لقوله عز وجل { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة } .

                                                                                                                                معناه فمن لم يجد الهدي فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، ولا يجوز له أن يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج قبل أن يحرم بالعمرة بلا خلاف ، وهل يجوز له بعد ما أحرم بالعمرة في أشهر الحج قبل أن يحرم بالحج ، قال أصحابنا : يجوز سواء طاف لعمرته أو لم يطف بعد أن أحرم بالعمرة .

                                                                                                                                وقال الشافعي : لا يجوز حتى يحرم بالحج ، كذا ذكر الفقيه أبو الليث الخلاف .

                                                                                                                                وذكر إمام الهدى أبو منصور الماتريدي - رحمه الله - القياس : أن لا يجوز ما لم يشرع في الحج ، وهو قول زفر لقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } ، وإنما يكون في الحج بعد الشروع فيه ، وذلك بالإحرام ، ولأن على أصل الشافعي دم المتعة دم كفارة وجب جبرا للنقص ، وما لم يحرم بالحج لا يظهر النقص ، ولنا أن الإحرام بالعمرة سبب لوجود الإحرام بالحجة فكان الصوم تعجيلا بعد وجود السبب فجاز ، وقبل وجود العمرة لم يوجد السبب فلم يجز ، ولأن السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية .

                                                                                                                                كذا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك ، وإذا كانت السنة في حقه الإحرام بالحج عشية التروية فلا يمكنه صيام الثلاثة الأيام بعد ذلك ، وإنما بقي له يوم واحد ; لأن أيام النحر والتشريق قد نهي عن الصيام فيها ، فلا بد من الحكم بجواز الصوم بعد إحرام العمرة قبل الشروع في الحج .

                                                                                                                                وأما الآية فقد قيل في تأويلها : إن المراد منها وقت الحج ، وهو الصحيح ; إذ الحج لا يصلح ظرفا للصوم ، والوقت يصلح ظرفا له فصار تقدير الآية الشريفة : فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج ، كما في قوله تعالى : { الحج أشهر معلومات } أي وقت الحج أشهر معلومات ، وعلى هذا صارت الآية الشريفة حجة لنا عليه ; لأن الله تعالى أوجب على المتمتع صيام ثلاثة أيام في وقت الحج ، وهو أشهر الحج ، وقد صام في أشهر الحج فجاز إلا أن زمان ما قبل الإحرام صار مخصوصا من النص ، والأفضل أن يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة بأن يصوم قبل التروية بيوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ; لأن الله تعالى جعل صيام ثلاثة أيام بدلا عن الهدي ، وأفضل أوقات البدل وقت اليأس عن الأصل لما يحتمل القدرة على الأصل قبله ، ولهذا كان الأفضل تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة لاحتمال وجود الماء قبله ، وهذه الأيام آخر وقت هذا الصوم عندنا ، فإذا مضت ولم يصم فيها فقد فات الصوم وسقط عنه ، وعاد الهدي ، فإن لم يقدر عليه يتحلل ، وعليه دمان : دم التمتع ، ودم التحلل قبل الهدي .

                                                                                                                                وعند الشافعي لا يفوت بمضي هذه الأيام ، ثم له قولان : في قول يصومها في أيام التشريق ، وفي قول يصومها بعد أيام التشريق .

                                                                                                                                والصحيح قولنا لقوله تعالى { : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } أي في وقت الحج لما بينا عين وقت الحج لصوم هذه الأيام ، إلا أن يوم النحر خرج من أن [ ص: 174 ] يكون وقتا لهذا الصوم بالإجماع ، وما رواه ليس وقت الحج ، فلا يكون محلا لهذا الصوم ، وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : المتمتع إنما يصوم قبل يوم النحر ، وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا أتاه يوم النحر ، وهو متمتع لم يصم ، فقال له عمر رضي الله عنه : اذبح شاة ، فقال الرجل ما أجدها ، فقال له عمر سل قومك ، فقال : ليس ههنا منهم أحد ، فقال عمر رضي الله عنه : يا مغيث أعطه عني ثمن شاة ، والظاهر أنه قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن مثل ذلك لا يعرف رأيا واجتهادا .

                                                                                                                                وأما صوم السبعة ، فلا يجوز قبل الفراغ من أفعال الحج بالإجماع ، وهل يجوز بعد الفراغ من أفعال الحجبمكة قبل الرجوع إلى الأهل ؟ قال أصحابنا : يجوز .

                                                                                                                                وقال الشافعي : لا يجوز إلا بعد الرجوع إلى الأهل إلا إذا نوى الإقامة بمكة فيصومها بمكة فيجوز ، واحتج بقوله تعالى { ، وسبعة إذا رجعتم } أي إذا رجعتم إلى أهليكم ، ولنا هذه الآية بعينها ; لأنه قال عز وجل : { إذا رجعتم } مطلقا ، فيقتضي أنه إذا رجع من منى إلى مكة ، وصامها يجوز ، وهكذا قال بعض أهل التأويل : إذا رجعتم من منى .

                                                                                                                                وقال بعضهم : إذا فرغتم من أفعال الحج ، وقيل : إذا أتى وقت الرجوع .

                                                                                                                                ولو وجد الهدي قبل أن يشرع في صوم ثلاثة أيام أو في خلال الصوم أو بعد ما صام فوجده في أيام النحر قبل أن يحلق أو يقصر : يلزمه الهدي ، ويسقط حكم الصوم عندنا .

                                                                                                                                وقال الشافعي لا يلزمه الهدي ، ولا يبطل حكم الصوم ، والصحيح قولنا ; لأن الصوم بدل عن الهدي ، وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فبطل حكم البدل كما لو وجد الماء في خلال التيمم .

                                                                                                                                ولو وجد الهدي في أيام الذبح أو بعد ما حلق أو قصر فحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه ، ولا يجب عليه الهدي ; لأن المقصود من البدل ، وهو التحلل قد حصل ، فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا تبطل حكم البدل كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء ، واختلف أبو بكر الرازي ، وأبو عبد الله الجرجاني في صوم السبعة قال الجرجاني : إنه ليس ببدل ; بدليل أنه يجوز مع وجود الهدي بالإجماع ، ولا جواز للبدل مع وجود الأصل كما في التراب مع الماء ونحو ذلك .

                                                                                                                                وقال الرازي : إنه بدل ; لأنه لا يجب إلا حال العجز عن الأصل ، وجوازه حال وجود الأصل لا يخرجه عن كونه بدلا .

                                                                                                                                ولو صام ثلاثة أيام ، ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض ، ولا هدي عليه ، كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ، ذكره الكرخي في مختصره ; لأن الذبح يتوقت بأيام الذبح عندنا ، فإذا مضت فقد حصل المقصود ، وهو إباحة التحلل فكأنه تحلل ثم وجد الهدي .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية