الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين .

                          جاء في أسباب نزول هذه الآيات ومعناها في الدر المنثور ما نصه :

                          أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ [ ص: 181 ] وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر وهو الكلبي عن باذان مولى أم هانئ عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) قال : " برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء ، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته ، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله ، قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء ، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا : ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره . قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) إلى قوله : ( أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء " .

                          وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والنحاس والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما ، فلما قدما بتركته فقد جاما من فضة بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله ما كتمتماها ولا اطلعتما ، ثم وجدوا الجام بمكة فقيل : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله : لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم ، وأخذ الجام ، وفيه نزلت : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) .

                          وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال : " كان تميم الداري وعدي بن بداء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية ويطيلان الإقامة بها ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم حولا متجرهما إلى المدينة ، فخرج بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه فأخذا منه شيئا ثم حجراه كما كان وقدما المدينة على أهله فدفعا متاعه ، ففتح أهله متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به وفقدوا شيئا فسألوهما عنه ، فقالوا : هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا . فقالوا لهما : هذا كتابه بيده . قالوا : ما كتمنا له شيئا فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ) [ ص: 182 ] إلى قوله : ( إنا إذا لمن الآثمين ) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا . فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم ظهر معهما على إناء من فضة منقوش مموه بذهب . فقال أهله : هذا من متاعه . قالا : نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية الأخرى : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل البيت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه ، ثم إن تميما الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول : صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء ، ثم قال : يا رسول الله ، إن الله يظهرك على أهل الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم وهي القرية التي ولد فيها عيسى . فكتب له بها كتابا ، فلما قدم عمر الشام أتاه تميم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : " أنا حاضر ذلك فدفعها إليه " وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ ( شهادة بينكم ) مضافا برفع " شهادة " بغير نون وبخفض " بينكم " وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ) هذا لمن مات وعنده المسلمون أمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين ثم قال : ( أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض ) فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، أمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بالله بعد الصلاة ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا ، فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة ، فذلك قوله تعالى : ( فإن عثر على أنهما استحقا إثما ) يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا قام الأولياء فحلفا أنهما كذبا ( ذلك أدنى ) أن يأتي الكافران بالشهادة على وجهها ( أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) فتترك شهادة الكافرين ويحكم بشهادة الأولياء ، فليس على شهود المسلمين إقسام ، إنما الإقسام إذا كانا كافرين .

                          وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : ( اثنان ذوا عدل منكم ) قال : من أهل الإسلام ( أو آخران من غيركم ) قال : من غير أهل الإسلام وفي قوله : ( فيقسمان بالله ) يقول : يحلفان بالله بعد الصلاة وفي قوله : ( فآخران يقومان مقامهما ) [ ص: 183 ] قال : من أولياء الميت ( فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ) يقول : فيحلفان بالله ما كان صاحبنا ليوصي بهذا إنهما لكاذبان ، وفي قوله : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) يعني أولياء الميت ، فيستحقون ماله بأيمانهم ، ثم يوضع ميراثه كما أمر الله وتبطل شهادة الكافرين وهي منسوخة .

                          وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية ( اثنان ذوا عدل منكم ) : قال : " ما من الكتاب إلا قد جاء على شيء جاء على إدلاله غير هذه الآية ولئن أنا لم أخبركم بها لأنا أجهل من الذي يترك الغسل يوم الجمعة ، هذا رجل خرج مسافرا ومعه مال فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين ، فإن لم يجد عدلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب ، فإن أدى فسبيل ما أدى ، وإن هو جحد استحلف بالله الذي لا إله إلا هو دبر صلاة : إن هذا الذي وقع إلي وما غيبت شيئا ، فإذا حلف برئ فإذا أتى بعد ذلك صاحبا الكتاب فشهدا عليه ثم ادعى القوم عليه من تسميتهم ما لهم جعلت أيمان الورثة مع شهادتهم ثم اقتطعوا حقه فذلك الذي يقول الله : ( ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) انتهى من الدر المنثور وفيه غلط وتحريف من الطبع لا سيما أثر ابن مسعود .

                          هذا ما ورد في سبب نزول هذه الآيات وتفسير بعضها من قوي وضعيف .

                          وأما وجه اتصالها بما قبلها مباشرة فقد قال الرازي فيه : إنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله : ( عليكم أنفسكم ) أمر بحفظ المال في قوله : ( ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم ) انتهى وهذا قول غير ظاهر ، بل لا يصح على المعنى المعروف عند العلماء لحفظ النفس والمال إلا أن يحمل الكلام على لازم معناه . وأظهر منه أن يقال : إنه تعالى لما ذكرنا في آخر الآية السابقة بأن مرجعنا إليه بعد الموت وأنه يحاسبنا ويجازينا ناسب أن يرشدنا في أثر ذلك إلى الوصية قبل الموت وإلى العناية بالإشهاد عليها لئلا تضيع .

                          وأما مفرداتها التي يحسن التذكير بمعناه قبل تفسير النظم الكريم . فمنها ( الشهادة ) وهي كالشهود : حضور الشيء مع مشاهدته بالبصر أو البصيرة أو مطلقا كما قال الراغب قال : لكن الشهود بالحضور المجرد أولى ، والشهادة مع الشهادة أولى . . . والشهادة قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر . و " شهدت " يقال على ضربين ، أحدهما : جار مجرى العلم وبلفظه تقام الشهادة ، ويقال " أشهد بكذا " ولا يرضى من الشاهد أن يقول " أعلم " بل يحتاج أن يقول " أشهد " ، والثاني : يجري مجرى القسم فيقول " أشهد بالله [ ص: 184 ] أن زيدا منطلق " فيكون قسما ، ومنهم من يقول : إن قال " أشهد " ولم يقل " بالله " يكون قسما ويجرى " علمت " مجراه في القسم ، فيجاب بجواب القسم ؛ نحو قول الشاعر :


                          ولقد علمت لتأتين منيتي

                          .

                          انتهى ملخصا . وقد ترد بمعنى الإقرار بالشيء .

                          ( والبين ) أمر اعتباري يفيد صلة أحد الشيئين بالآخر أو الأشياء من زمان أو مكان أو حال أو عمل ، وقالوا : إنه يطلق على الوصل والفرقة ، ومن الثاني قولهم : " ذات البين " للعداوة والبغضاء ، قال تعالى : ( وأصلحوا ذات بينكم ) ( 8 : 1 ) أي ما بينكم من عداوة أو فساد ، وهو أمر معنوي متصل بين الأفراد .

                          ومنها ( ضربتم في الأرض ) أي سافرتم وتقدم في سورة النساء ، ومنها ( تحبسونهما ) وهو من الحبس بمعنى إمساك الشيء ومنعه من الانبعاث ، والحبس مصنع الماء الذي يمنع فيه من الجريان . ومنها ( عثر ) وهو من العثور على الشيء بمعنى الاطلاع عليه بالاتفاق من غير سبق طلب له أو من غير حسبان ، وأعثره عليه أوقفه عليه وأعلمه به من حيث لم يكن يتوقع ذلك ، وأصله من عثر ( كقعد ) عثارا وعثورا إذا سقط .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية