الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3041 ] وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (9) قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (10)

                                                                                                                                                                                                                                      في الجولة الأولى لمس قلوبهم بعرض قصة وجودهم; وخلقهم من نفس واحدة; وتزويجها من جنسها; وخلق الأنعام أزواجا كذلك; وخلقهم في بطون أمهاتهم في ظلمات ثلاث. وأشعرهم يد الله تمنحهم خصائص جنسهم البشري أول مرة; ثم تمنحهم خصائص البقاء والارتقاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وهنا يلمس قلوبهم لمسة أخرى وهو يعرض عليهم صورتهم في الضراء وصورتهم في السراء; ويريهم تقلبهم وضعفهم وادعاءهم وقلة ثباتهم على نهج; إلا حين يتصلون بربهم، ويتطلعون إليه، ويقنتون له، فيعرفون الطريق، ويعلمون الحقيقة; وينتفعون بما وهبهم الله من خصائص الإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه. ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل، وجعل لله أندادا، ليضل عن سبيله. قل: تمتع بكفرك قليلا، إنك من أصحاب النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن فطرة الإنسان تبرز عارية حين يمسه الضر; ويسقط عنها الركام وتزول عنها الحجب، وتتكشف عنها الأوهام; فتتجه إلى ربها، وتنيب إليه وحده; وهي تدرك أنه لا يكشف الضر غيره. وتعلم كذب ما تدعي من شركاء أو شفعاء.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء، ويخوله الله نعمة منه، ويرفع عنه البلاء. فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه. وتطلعه إليه في المحنة وحده، حين لم يكن غيره يملك أن يدفع عنه محنته.. ينسى هذا كله ويذهب يجعل لله أندادا. إما آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى; وإما قيما وأشخاصا وأوضاعا يجعل لها في نفسه شركة مع الله، كما يفعل في جاهلياته الكثيرة! فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله وأولاده وحكامه وكبراءه كما يعبد الله أو أخلص عبادة; ويحبها كما يحب الله أو أشد حبا! والشرك ألوان. فيها الخفي الذي لا يحسبه الناس شركا، لأنه لا يأخذ شكل الشرك المعروف وإنما هو من الشرك في الصميم.

                                                                                                                                                                                                                                      وتكون العاقبة هي الضلال عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدد. وإفراده بالعبادة والتوجه والحب هو وحده الطريق إليه. والعقيدة في الله لا تحتمل شركة في القلب. لا تحتمل شركة من مال ولا ولد ولا وطن ولا [ ص: 3042 ] أرض ولا صديق ولا قريب، فأيما شركة قامت في القلب من هذا وأمثاله فهي اتخاذ أنداد لله، وضلال عن سبيل الله، منته إلى النار بعد قليل من المتاع في هذه الأرض:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: تمتع بكفرك قليلا: إنك من أصحاب النار ..

                                                                                                                                                                                                                                      وكل متاع في هذه الأرض قليل مهما طال. وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عمر. بل إن حياة الجنس البشري كله على الأرض لمتاع قليل، حين يقاس إلى أيام الله!

                                                                                                                                                                                                                                      وإلى جانب هذه الصورة النكدة من الإنسان، يعرض صورة أخرى.. صورة القلب الخائف الوجل، الذي يذكر الله ولا ينساه في سراء ولا ضراء; والذي يعيش حياته على الأرض في حذر من الآخرة; وفي تطلع إلى رحمة ربه وفضله; وفي اتصال بالله ينشأ عنه العلم الصحيح المدرك لحقائق الوجود:

                                                                                                                                                                                                                                      أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ إنما يتذكر أولو الألباب .

                                                                                                                                                                                                                                      وهي صورة مشرقة مرهفة. فالقنوت والطاعة والتوجه - وهو ساجد وقائم - وهذه الحساسية المرهفة - وهو يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه - وهذا الصفاء وهذه الشفافية التي تفتح البصيرة. وتمنح القلب نعمة الرؤية والالتقاط والتلقي.. هذه كلها ترسم صورة مشرقة وضيئة من البشر تقابل تلك الصورة النكدة المطموسة التي رسمتها الآية السابقة. فلا جرم يعقد هذه الموازنة:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ ..

                                                                                                                                                                                                                                      فالعلم الحق هو المعرفة. هو إدراك الحق. هو تفتح البصيرة. هو الاتصال بالحقائق الثابتة في هذا الوجود. وليس العلم هو المعلومات المفردة المنقطعة التي تزحم الذهن، ولا تؤدي إلى حقائق الكون الكبرى، ولا تمتد وراء الظاهر المحسوس.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الطريق إلى العلم الحقيقي والمعرفة المستنيرة.. هذا هو.. القنوت لله. وحساسية القلب، واستشعار الحذر من الآخرة، والتطلع إلى رحمة الله وفضله; ومراقبة الله هذه المراقبة الواجفة الخاشعة.. هذا هو الطريق، ومن ثم يدرك اللب ويعرف، وينتفع بما يرى وما يسمع وما يجرب; وينتهي إلى الحقائق الكبرى الثابتة من وراء المشاهدات والتجارب الصغيرة. فأما الذين يقفون عند حدود التجارب المفردة، والمشاهدات الظاهرة، فهم جامعو معلومات وليسوا بالعلماء..

                                                                                                                                                                                                                                      إنما يتذكر أولو الألباب .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما يعرف أصحاب القلوب الواعية المتفتحة المدركة لما وراء الظواهر من حقائق. المنتفعة بما ترى وتعلم، التي تذكر الله في كل شيء تراه وتلمسه ولا تنساه، ولا تنسى يوم لقاه..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد عرض هاتين الصورتين يتجه إلى الذين آمنوا يناديهم ليتقوا ويحسنوا; ويتخذوا من حياتهم القصيرة على هذه الأرض وسيلة للكسب الطويل في الحياة الآخرة:

                                                                                                                                                                                                                                      قل: يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم. للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة. وأرض الله واسعة. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3043 ] وفي التعبير: قل: يا عباد الذين آمنوا التفاتة خاصة. فهو في الأصل: قل لعبادي الذين آمنوا.. قل لهم: اتقوا ربكم. ولكنه جعله يناديهم، لأن في النداء إعلانا وتنبيها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول لهم: يا عباد فهم عباد الله. فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله. فالنداء في حقيقته من الله. وما محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا مبلغ عنه للنداء.

                                                                                                                                                                                                                                      قل: يا عباد الذين آمنوا. اتقوا ربكم ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتقوى هي تلك الحساسية في القلب، والتطلع إلى الله في حذر وخشية، وفي رجاء وطمع، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف.. إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله.

                                                                                                                                                                                                                                      للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما أجزل الجزاء! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام. تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام. ولكنه فضل الله على هذا الإنسان. الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده. فيكرمه ويرعاه!

                                                                                                                                                                                                                                      وأرض الله واسعة .

                                                                                                                                                                                                                                      فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان. فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان; ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان.

                                                                                                                                                                                                                                      وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن. فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه.

                                                                                                                                                                                                                                      والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان: ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب:

                                                                                                                                                                                                                                      إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ..

                                                                                                                                                                                                                                      فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة. ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب.. فسبحان العليم بهذه القلوب، الخبير بمداخلها ومساربها، المطلع فيها على خفي الدبيب.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية