الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        5060 وعن أبي حازم عن أبي هريرة أصابني جهد شديد فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية من كتاب الله فدخل داره وفتحها علي فمشيت غير بعيد فخررت لوجهي من الجهد والجوع فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على رأسي فقال يا أبا هريرة فقلت لبيك رسول الله وسعديك فأخذ بيدي فأقامني وعرف الذي بي فانطلق بي إلى رحله فأمر لي بعس من لبن فشربت منه ثم قال عد يا أبا هر فعدت فشربت ثم قال عد فعدت فشربت حتى استوى بطني فصار كالقدح قال فلقيت عمر وذكرت له الذي كان من أمري وقلت له فولى الله ذلك من كان أحق به منك يا عمر والله لقد استقرأتك الآية ولأنا أقرأ لها منك قال عمر والله لأن أكون أدخلتك أحب إلي من أن يكون لي مثل حمر النعم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله ( وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : أصابني جهد شديد ) هو موصول بالإسناد الذي قبله . وذكر محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا الشيخ سراج الدين البلقيني استشكل هذا التركيب وقال : قوله " وعن أبي حازم " لا يصح عطفه على قوله عن أبيه لأنه يلزم منه إسقاط فضيل فيكون منقطعا إذ يصير التقدير عن أبيه وعن أبي حازم ، قال : ولا يصح عطفه على قوله " وعن أبي حازم " لأن المحدث الذي لم يعين هو محمد بن فضيل فيلزم الانقطاع أيضا . قال : وكان اللائق أن يقول : وبه إلى أبي حازم انتهى . وكأنه تلقفه من شيخنا في مجلس بسماعه للبخاري ، وإلا فلم يسمع بأن الشيخ شرح هذا الموضع ، والأول مسلم ، والثاني مردود لأنه لا مانع من عطف الراوي لحديث على الراوي بعينه لحديث آخر ، فكأن يوسف قال : حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن أبي حازم بكذا وعن أبي حازم بكذا ، واللائق الذي ذكره صحيح لكنه لا يتعين ، بل لو قال : وبه إلى أبيه عن أبي حازم لصح ، أو حذف قوله " عن أبيه " فقال : وبه عن أبي حازم لصح ، وحدثنا تكون به مقدرة والمقدرة في حكم الملفوظ . وأوضح منه أن قوله " وعن أبي حازم " معطوف على قوله " حدثنا محمد بن فضيل إلخ " فحذف ما بينهما للعلم به ، وزعم بعض الشراح أن هذا معلق ، وليس كما قال ، فقد أخرجه أبو يعلى عن عبد الله بن عمر بن أبان عن محمد بن فضيل بسند البخاري فيه ، فظهر أنه معطوف على السند المذكور كما قلته أولا ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أصابني جهد شديد ) أي من الجوع ، والجهد تقدم أنه بالضم وبالفتح بمعنى والمراد به المشقة ، وهو في كل شيء بحسبه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 430 ] قوله ( فاستقرأته آية ) أي سألته أن يقرأ علي آية من القرآن معينة على طريق الاستفادة ، وفي غالب النسخ " فاستقريته " بغير همزة ، وهو جائز على التسهيل وإن كان أصله الهمزة .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فدخل داره وفتحها علي ) أي قرأها علي وأفهمني إياها ، ووقع في ترجمة أبي هريرة في " الحلية لأبي نعيم " من وجه آخر عن أبي هريرة أن الآية المذكورة من سورة آل عمران ، وفيه " فقلت له أقرئني وأنا لا أريد القراءة وإنما أريد الإطعام " وكأنه سهل الهمزة فلم يفطن عمر لمراده .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فخررت لوجهي من الجهد ) أي الذي أشار إليه أولا وهو شدة الجوع ، ووقع في الرواية التي في " الحلية " أنه كان يومئذ صائما وأنه لم يجد ما يفطر عليه .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فأمر لي بعس ) بضم العين المهملة بعدها مهملة هو القدح الكبير .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حتى استوى بطني ) أي استقام من امتلائه من اللبن .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( كالقدح ) بكسر القاف وسكون الدال بعدها حاء مهملة هو السهم الذي لا ريش له ، وسيأتي لأبي هريرة قصة في شرب اللبن مطولة في كتاب الرقاق ، وفيها أنه قال " اشرب ، فقال : لا أجد له مساغا " ويستفاد منه جواز الشبع ولو حمل المراد بنفي المساغ على ما جرت به عادته لا أنه أراد أنه زاد على الشبع ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        " تنبيه " :

                                                                                                                                                                                                        ذكر لي محدث الديار الحلبية برهان الدين أن شيخنا سراج الدين البلقيني قال : ليس في هذه الأحاديث الثلاثة ما يدل على الأطعمة المترجم عليها المتلو فيها الآيات المذكورة قلت : وهو ظاهر إذا كان المراد مجرد ذكر أنواع الأطعمة ، أما إذا كان المراد بها ذلك وما يتعلق به من أحوالها وصفاتها فالمناسبة ظاهرة ، لأن من جملة أحوالها الناشئة عنها الشبع والجوع ; ومن جملة صفاتها الحل والحرمة والمستلذ والمستخبث ، ومما ينشأ عنها الإطعام وتركه ، وكل ذلك ظاهر من الأحاديث الثلاثة . وأما الآيات فإنها تضمنت الإذن في تناول الطيبات ، فكأنه أشار بالأحاديث إلى أن ذلك لا يختص بنوع من الحلال ولا المستلذ ولا بحالة الشبع ولا بسد الرمق ، بل يتناول ذلك بحسب الوجدان وبحسب الحاجة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( تولى ذلك ) أي باشره من إشباعي ودفع الجوع عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحكى الكرماني أن في رواية " تولى الله ذلك " قال و " من " على هذا مفعول ، وعلى الأول فاعل انتهى . ويكون " تولى " على الثاني بمعنى ولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ولأنا أقرأ لها منك ) فيه إشعار بأن عمر لما قرأها عليه توقف فيها أو في شيء منها حتى ساغ لأبي هريرة ما قال ، ولذلك أقره عمر على قوله .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( أدخلتك ) أي الدار وأطعمتك .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( حمر النعم ) أي الإبل ، وللحمر منها فضل ، على غيرها من أنواعها ، وقد تقدم في المناقب البحث في تخصيصها بالذكر والمراد به ، وتقدم من وجه آخر عن أبي هريرة " كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب معي فيطعمني " قال ابن بطال : فيه أنه كان من عادتهم إذا استقرأ أحدهم صاحبه القرآن أن يحمله إلى منزله ويطعمه ما تيسر ، ويحمل ما وقع من عمر على أنه كان له شغل عاقه عن ذلك ، أو لم يكن عنده ما يطعمه حينئذ انتهى ويبعد الأخير تأسف عمر على فوت ذلك . وذكر لي محدث الديار الحلبية أن شيخنا سراج الدين [ ص: 431 ] البلقيني استبعد قول أبي هريرة لعمر " لأنا أقرأ لها منك يا عمر " من وجهين : أحدهما مهابة عمر ، والثاني عدم اطلاع أبي هريرة على أن عمر لم يكن يقرؤها مثله . قلت : عجبت من هذا الاعتراض ، فإنه يتضمن الطعن على بعض رواة الحديث المذكور بالغلط مع وضوح توجيهه ، أما الأول فإن أبا هـريرة خاطب عمر بذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي حالة كان عمر فيها في صورة الخجلان منه فجسر عليه ، وأما الثالث فيعكس ويقال : وما كان أبو هريرة ليقول ذلك إلا بعد اطلاعه ، فلعله سمعها من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت وما سمعها عمر مثلا إلا بواسطة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية