الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب الجمع بأذان وإقامتين من غير تطوع بينهما

                                                                                                                                            1176 - ( عن ابن عمر رضي الله عنهما : { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا كل واحدة منهما بإقامة ولم يسبح بينهما ، ولا على أثر واحدة منهما } . رواه البخاري والنسائي ) .

                                                                                                                                            1177 - ( وعن جابر رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلاتين بعرفة بأذان واحد وإقامتين ، وأتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر . } مختصر لأحمد ومسلم والنسائي ) .

                                                                                                                                            1178 - ( وعن أسامة رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئا } . متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي لفظ : ركب حتى [ ص: 261 ] جئنا المزدلفة فأقام المغرب ، ثم أناخ الناس في منازلهم ، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا . رواه أحمد ومسلم .

                                                                                                                                            وفي لفظ : { أتى المزدلفة فصلوا المغرب ، ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء } . رواه أحمد ، وهو حجة في جواز التفريق بين المجموعتين في وقت الثانية ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله : ( صلى المغرب والعشاء ) في رواية للبخاري { جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء } وفي رواية له { جمع بين المغرب والعشاء } قوله : ( بإقامة ) لم يذكر الأذان وهو ثابت في حديث جابر المذكور بعده . وفي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري بلفظ { فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك ، فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب } الحديث . قوله : ( ولم يسبح بينهما ) أي لم يتنفل بين صلاة المغرب والعشاء ولا عقب كل واحدة منهما .

                                                                                                                                            قال في الفتح : ويستفاد منه أنه ترك النفل عقب المغرب وعقب العشاء ، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما ، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها ، لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل . ومن ثم قال الفقهاء : تؤخر سنة العشاءين عنهما .

                                                                                                                                            ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما . ويعكر على نقل الاتفاق ما في البخاري عن ابن مسعود { أنه صلى المغرب بالمزدلفة وصلى بعدها ركعتين ، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر بالأذان والإقامة ثم صلى العشاء } . وقد اختلف أهل العلم في صلاة النافلة في مطلق السفر . قال النووي : قد اتفق الفقهاء على استحباب النوافل المطلقة في السفر . واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة ، فتركها ابن عمر وآخرون ، واستحبها الشافعي وأصحابه والجمهور . ودليلهم الأحاديث العامة الواردة في ندب مطلق الرواتب ، وحديث صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى في يوم الفتح وركعتي الصبح حين ناموا حتى طلعت الشمس ، وأحاديث أخر صحيحة ذكرها أصحاب السنن ، والقياس على النوافل المطلقة .

                                                                                                                                            وأما في الصحيحين عن ابن عمر أنه قال : { صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر } وفي رواية { صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك } فقال النووي : لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الرواتب في رحله ولا يراه ابن عمر ، فإن النافلة في البيت أفضل ، ولعله تركها في بعض الأوقات تنبيها على جواز تركها .

                                                                                                                                            وأما ما يحتج به القائلون بتركها من أنها لو شرعت لكان إتمام الفريضة أولى . فجوابه أن الفريضة متحتمة ، فلو شرعت تامة لتحتم إتمامها . وأما النافلة فهي إلى خيرة المكلف ، فالرفق به أن تكون [ ص: 262 ] مشروعة ، ويتخير ، إن شاء فعلها وحصل ثوابها ، وإن شاء تركها ولا شيء عليه .

                                                                                                                                            وقال ابن دقيق العيد : إن قول ابن عمر " فكان لا يزيد في السفر على ركعتين " يحتمل أنه كان لا يزيد في عدد ركعات الفرض ، ويحتمل أنه كان لا يزيد نفلا ، ويحتمل أعم من ذلك . قال في الفتح : ويدل على الثاني رواية مسلم بلفظ " صحبت ابن عمر في طريق مكة فصلى لنا الظهر ركعتين ، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلسنا معه ، فحانت منه التفاتة فرأى ناسا قياما ، فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قلت : يسبحون ، قال : لو كنت مسبحا لأتممت " ثم ذكر الحديث

                                                                                                                                            قال ابن القيم في الهدي : وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في سفره الاقتصار على الفرض ، ولم يحفظ عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من سنة الوتر والفجر ، فإنه لم يكن يدعها حضرا ولا سفرا انتهى . وتعقبه الحافظ بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث { البراء بن عازب قال : سافرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سفرا ، فلم أره ترك ركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر } قال : وكأنه لم يثبت عنده ، وقد استغربه الترمذي ، ونقل عن البخاري أنه رآه حسنا .

                                                                                                                                            وقد حمله بعض العلماء على سنة الزوال لا على الراتبة قبل الظهر انتهى . وقد ذكر ابن القيم هذا الحديث الذي تعقبه به الحافظ في الهدي في هذا البحث وأجاب عنه وذكر حديث عائشة " أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعا قبل الظهر وركعتين بعدها } وأجاب عنه . واعلم أنه لا بد من حمل قول ابن عمر : فلم أره يسبح ، على صلاة السنة ، وإلا فقد صح عنه أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه .

                                                                                                                                            وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به } وفي الصحيحين { عن عامر بن ربيعة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته } قال في الهدي : وقد سئل الإمام أحمد عن التطوع في السفر فقال : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس .

                                                                                                                                            قال : وروي عن الحسن أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها . قال : وروي هذا عن عمر وعلي وابن مسعود وجابر وأنس وابن عباس وأبي ذر . قوله : ( بأذان واحد وإقامتين ) فيه أن السنة في الجمع بين الصلاتين الاقتصار على أذان واحد ، والإقامة لكل واحدة من الصلاتين . وقد أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه أمر بالأذان والإقامة لكل صلاة من الصلاتين المجموعتين بمزدلفة .

                                                                                                                                            قال ابن حزم : لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو ثبت لقلت به . ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق هذا الحديث . قال أبو إسحاق : فذكرته لأبي جعفر بن محمد بن علي فقال : أما نحن أهل البيت [ ص: 263 ] فهكذا نصنع قال ابن حزم : وقد روي عن عمر من فعله وأخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه ، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم . قال الحافظ : ولا يخفى تكلفه ، ولو تأتى له ذلك في حق عمر لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجتهم لم يتأت له في حق ابن مسعود . وقد ذهب إلى أن المشروع أذان واحد في الجمع وإقامة لكل صلاة الشافعي في القديم ، وهو مروي عن أحمد وابن حزم وابن الماجشون ، وقواه الطحاوي وإليه ذهبت الهادوية .

                                                                                                                                            وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو مروي عن أحمد : إنه يجمع بين الصلاتين بإقامتين فقط ، وتمسك الأولون بحديث جابر المذكور في الباب ، وتمسك الآخرون بحديث أسامة المذكور في الباب أيضا ، لأنه اقتصر فيه على ذكر الإقامة لكل واحدة من الصلاتين . والحق ما قاله الأولون لأن حديث جابر مشتمل على زيادة الأذان وهي زيادة غير منافية فيتعين قبولها .

                                                                                                                                            قوله : ( ثم أناخ كل إنسان بعيره ) فيه جواز الفصل بين الصلاتين المجموعتين بمثل هذا ، وظاهر قوله : " ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا " المنافاة لقوله في الرواية الأخرى : " ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء " فإن أمكن الجمع إما بأنه حل بعضهم قبل صلاة العشاء وبعضهم بعدها أو بغير ذلك فذاك ، وإن لم يمكن فالرواية الأولى أرجح لكونها في صحيح مسلم ، ولم يرجحها أيضا الاقتصار في الرواية المتفق عليها على مجرد الإناخة فقط .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية