الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون القرآن ولا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية تنظر في النصل فلا ترى شيئا وتنظر في القدح فلا ترى شيئا وتنظر في الريش فلا ترى شيئا وتتمارى في الفوق

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          477 479 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري التابعي ، ولجده قيس البغوي ( عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ) بن خالد القرشي ( التيمي ) تيم قريش أبي عبد الله المدني ، مات سنة عشرين ومائة على الصحيح ، وجده الحارث من المهاجرين الأولين ( عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ) بن عوف الزهري المدني ( عن أبي سعيد ) سعد بن مالك بن سنان الخدري ، الصحابي ابن الصحابي ( قال : سمعت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يقول : يخرج فيكم ) أنفسكم يعني أصحابه ، أي يخرج عليكم ( قوم ) هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب يوم النهروان فقتلهم فهم أصل الخوارج ، وأول خارجة خرجت ، إلا أن منهم طائفة كانت ممن قصد المدينة يوم الدار في قتل عثمان ، وسموا خوارج من قوله يخرج ، قاله في التمهيد

                                                                                                          ( تحقرون ) بكسر القاف تستقلون ( صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ) ; لأنهم كانوا يصومون النهار ويقومون الليل .

                                                                                                          وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظرته للخوارج قال : فأتيتهم فدخلت على قوم لم أر أشد اجتهادا منهم ( وأعمالكم مع أعمالهم ) من عطف العام على الخاص كقوله : ( ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ) ( سورة نوح : الآية 28 ) ( يقرءون القرآن ) آناء الليل والنهار ، وفي رواية للبخاري : " يتلون كتاب الله رطبا " أي لمواظبتهم على تلاوته ، فلا يزال لسانهم رطبا بها أو هو من تحسين الصوت بها ( ولا يجاوز حناجرهم ) جمع حنجرة ، وهي آخر الحلق مما يلي الفم ، وقيل : أعلى الصدر عند طرف الحلقوم ، والمعنى : أن قراءتهم لا يرفعها الله ولا يقبلها ، وقيل لا يعملون بالقرآن فلا يثابون على [ ص: 20 ] قراءتهم فلا يحصل لهم إلا سرده ، وقيل : لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به ، فلا حظ لهم منه إلا مروره على لسانهم ، لا يصل إلى حلوقهم فضلا عن أن يصل إلى قلوبهم فلا يتدبروه بها .

                                                                                                          وقال ابن رشيق : المعنى لا ينتفعون بقراءته كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب إلا بما يجاوز حنجرته .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : وكانوا لتكفيرهم الناس لا يقبلون خبر أحد عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يعرفوا بذلك شيئا من سنته وأحكامه المبينة لمجمل القرآن والمخبرة عن مراد الله تعالى في خطابه ، ولا سبيل إلى المراد بها إلا ببيان رسوله ، ألا ترى إلى قوله : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( سورة النحل : الآية 44 ) والصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بينتها السنة ، فمن لم يقبل أخبار العدول ضل وصار في عميا .

                                                                                                          ( يمرقون ) بضم الراء يخرجون سريعا ( من الدين ) قيل : المراد الإسلام ، فهو حجة لمن كفر الخوارج ، وبه جزم ابن العربي في الأحوذي محتجا برواية البخاري . " يمرقون من الإسلام " ، وقيل : المراد الطاعة فلا حجة فيه لكفرهم ، قال الحافظ : والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام كما في الرواية الأخرى ، وخرج الكلام مخرج الزجر وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل ( مروق السهم ) وفي رواية : " كما يمرق السهم " ( من الرمية ) بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية ، وهي الطريدة من الصيد ، فعيلة من الرمي بمعنى مفعولة ، دخلتها الهاء إشارة إلى نقلها من الوصفية إلى الاسمية ، شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد فيدخل فيه ويخرج منه ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء ( تنظر ) أيها الرامي ( في النصل ) بنون فصاد ، حديدة السهم ، هل ترى فيه شيئا من أثر الصيد دم أو نحوه ؟ ( فلا ترى شيئا ) فيه ( وتنظر في القدح ) بكسر القاف وسكون الدال وحاء مهملتين ، خشب السهم أو ما بين الريش والسهم ، هل ترى أثرا ؟ ( فلا ترى شيئا ) فيه ( وتنظر في الريش ) الذي على السهم ( فلا ترى شيئا ) فيه ( وتتمارى ) بفتح الفوقيتين ، أي تشك ( في الفوق ) بضم الفاء ، وهو موضع الوتر من السهم ، أي تتشكك هل علق به شيء من الدم ؟ وفي رواية : وينظر ويتمارى ، بالتحتية أي الرامي ، والمعنى أن هؤلاء يخرجون من الإسلام بغتة كخروج السهم إذا رماه رام قوي الساعد فأصاب ما رماه فنفذ بسرعة بحيث لا يعلق بالسهم ولا بشيء منه من المرمي شيء ، فإذا التمس الرامي سهمه لم يجده علق بشيء من الدم ولا غيره .

                                                                                                          وفي رواية ابن ماجه والطبراني : " سيخرج قوم من الإسلام خروج السهم من الرمية ، عرضت للرجال فرموها ، فانمرق سهم أحدهم منها فخرج ، فأتاه فنظر إليه ، فإذا هو لم يتعلق بنصله من الدم شيء ، ثم نظر إلى القدح " . الحديث ، زاد في رواية الشيخين من وجه آخر عن أبي سعيد : [ ص: 21 ] " آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ، ويخرجون على خير فرقة من الناس " . قال أبو سعيد : فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وإن علي بن أبي طالب قتلهم وأنا معه ، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، الذي نعته . وفي رواية مسلم : " فلما قتلهم علي قال : انظروا فلم ينظروا شيئا ، فقال : ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا ، ثم وجدوه في خربة " . قال الباجي : أجمع العلماء أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي ، وفي التمهيد : يتمارى في الفوق ، أي يشك ، وذلك يوجب أن لا يقطع على الخوارج ولا على غيرهم من أهل البدع بالخروج من الإسلام ، وأن يشك في أمرهم ، وكل شيء يشك فيه فسبله التوقف فيه دون القطع ، وقد قال فيهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : " يخرج قوم من أمتي " فإن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته ، وقال قوم : معناه من أمتي بدعواهم .

                                                                                                          وقال علي : لم نقاتل أهل النهروان على الشرك ، وسئل عنهم أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا ، قيل : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، قيل : فما هم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وحاربونا وقاتلونا فقتلناهم .

                                                                                                          قال إسماعيل القاضي : رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر للفساد الداخل في الدين ، وهو من باب الإفساد في الأرض وليس إفسادهم بدون إفساد قطاع الطريق والمحاربين المسلمين على أموالهم ، فوجب بذلك قتلهم ، لكنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم ، وهذا قول عامة الفقهاء الذين يرون قتلهم واستتابتهم ، وذهب أبو حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من المحدثين إلى أنه لا يتعرض لهم باستتابة وغيرها ما استتروا ولم يبغوا ولم يحاربوا ، وقالت طائفة من المحدثين : هم كفار على ظواهر الأحاديث ، ولكن يعارضها غيرها في من لا يشرك بالله شيئا ويريد بعمله وجهه ، وإن أخطأ في حكمه واجتهاده ، والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها الإيمان فهما ضرتان ، انتهى ملخصا .

                                                                                                          وبالغ الخطابي فقال : أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج على ضلالتهم فرقة من المسلمين ، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وقبول شهادتهم ، وهذا الحديث أخرجه البخاري في التفسير : حدثنا عبد الله بن يوسف ، عن مالك به .




                                                                                                          الخدمات العلمية