الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4966 - وعن تميم الداري - رضي الله عنه -

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الدين النصيحة " ثلاثا . قلنا : لمن ؟ قال : " لله ، ولكتابه ، ولرسوله ولأئمة المسلمين ، وعامتهم " . رواه مسلم .

التالي السابق


4966 - ( وعن تميم الداري ) : منسوب إلى جد له اسمه دار عند الجمهور ، ومروياته ثمانية عشر حديثا وليس له في الصحيحين إلا هذا . قال المؤلف : هو تميم بن أوس الداري كان نصرانيا أسلم سنة تسع ، وكان يختم القرآن في ركعة ، وربما ردد الآية الواحدة كلها إلى الصباح . قال محمد بن المنكدر : إن تميما الداري نام ليلة ولم يقم للتهجد فيها حتى أصبح ، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع ، سكن المدينة ، ثم انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان ، وأقام بها إلى أن مات ، وهو أول من أسرج السراج في المسجد ، روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة [ ص: 3111 ] الدجال والجساسة وعنه أيضا جماعة ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الدين ) أي : أعماله وأفضل أعماله أو الأمر المهم في الدين ( النصيحة ) : وهي تحري قول أو فعل فيه صلاح لصاحبه ، أو تحري إخلاص الود له ، والحاصل أنها إرادة الخير للمنصوح له وهو لفظ جامع لمعان شتى . قال الخطابي : النصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير ، وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة وجيزة يحصيها ويجمع معناها غيرها ، كما قالوا في الفلاح ليس في كلامهم كله أجمع لخير الدنيا والآخرة منه ، فقوله عليه الصلاة والسلام : " الدين النصيحة " يريد عماد الدين وقوامه ، إنما هو النصيحة وبها ثباته ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنية " وكما في قوله : " الحج عرفة " فالحصر ادعائي وهو مبني على ما اشتهر من أن هذا الحديث أحد أرباع الإسلام ، وأما على ما اختاره النووي من أنه عليه مدار الإسلام كما سيأتي ، فالحصر حقيقي وهي مأخوذة من نصحت العسل : إذا صفيته من الشمع ، شبهوا تخليص القول والفعل من الغش بتخليص العسل من الشمع ( ثلاثا ) أي : ذكرها ثلاثا للتأكيد بها والاهتمام بشأنها ، وليس له ذكر في الأربعين للنووي ، ثم لما كانت النصيحة من الأمور الإضافية استفصلت ، فقال الراوي : ( قلنا ) أي : معشر الصحابة والمراد بعضهم ( لمن ؟ ) أي : النصيحة لمن ؟ ( قال ) أي : النبي عليه الصلاة والسلام : ( لله ) أي : بالإيمان وصحة الاعتقاد في وحدانيته وترك الإلحاد في صفاته وإخلاص النية في عبادته ، وبذل الطاقة فيما أمر به ونهى عنه ، والاعتراف بنعمته والشكر له عليها ، وموالاة من أطاعه ، ومعاداة من عصاه ، وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصيحة نفسه لله ، والله غني عن نصح كل ناصح ، كذا ذكره الخطابي ، وخلاصته أن النصيحة لله هي التعظيم لأمره والشفقة على خلقه . وقال بعض المحققين : هي الإيمان بوجوده بأن يعلم أن وراء التحيزات موجودا خالقا وبصفاته الثبوتية والسلبية والإضافية ، وبأفعاله بأن يعلم أن كل ما سواه المسمى بالعالم ، فإنما حدث بقدرته ، وهو من العرش إلى الثرى بالنسبة إلى العظمة الإلهية أقل من خردلة بالنسبة إلى جميع العالم ، وبأحكامه بأن يعلم أنها غير معللة بغرض ، وأن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العبد ، وأن له الحكم كيف يشاء ، ولا يجب عليه شيء ، إن أثاب فبفضله وإن عذب فبعدله . وأسمائه بأن يعلم بأنها توقيفية ، ثم بإخلاص العبادة واجتناب معاصيه والحب له والبغض فيه ( ولكتابه ) أي : والنصيحة لكتابه بالإيمان به ، وبأنه كلام الله ووحيه وتنزيله لا يقدر على مثله أحد من المخلوقين ، وإقامة حروفه في التلاوة ، والتصديق بوعده ووعيده والاعتبار بمواعظه ، والتفكر في عجائبه ، والعمل بمحكمه ، والتسليم بمتشابهه ذكره الخطابي .

وقيل : هو أن يكرمه ويبذل مجهوده في الذب عنه من تأويل الجاهلية وابتهال المبطلين . وقال بعض المدققين : المراد بالكتاب القرآن ; لأن الإيمان به يتضمن الإيمان بجميع الكتب ، أو جنس الكتب السماوية ، إذ الجنس المضاف يفيد العموم كما تقرر في الأصول . على أن صاحب المفتاح صرح بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ، ولذا قال ابن عباس : الكتاب أكثر من الكتب لتناوله وحدان الجنس بخلاف الكتب ، لكن حقق بعض الأفاضل أن الجمع المحلى باللام يشمل كل فرد مثل المفرد . قلت : ولو سلم ، فليس شمول الجمع مثل شمول المفرد ، ثم وقوع الكتاب في جواب ( من ) على سبيل التغليب ( ولرسوله ) بالتصديق لنبوته وقبول ما جاء به ودعا إليه ، وبذل الطاعة له فيما أمر به ونهى عنه ، والانقياد له وإيثاره بالمحبة فوق نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، والمراد محمد - صلى الله عليه وسلم - أو الجنس ليشمل الملك أيضا إذ هم رسل إلى الأنبياء كما قال تعالى : جاعل الملائكة رسلا ، وقال : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، ( ولأئمة المسلمين ) بأن ينقاد لطاعتهم في الحق ، ولا يخرج عليهم إذا جاروا ، ويذكرهم برفق ولطف ، ويعلمهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين ، ويؤلف قلوب الناس لطاعتهم ، ومن النصيحة لهم : الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم ، وأن لا يغريهم بالثناء الكاذب عليهم ، وأن يدعو لهم بالصلاح ، هذا كله على أن المراد بالأئمة الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولاية ، ومجمل معنى الإمام من له خلافة الرسول في إقامة الدين

[ ص: 3112 ] بحيث يجب اتباعه على الكل ، وقد يتناول ذلك الأئمة الذين هم علماء الدين ، وأن من نصيحتهم قبول ما رووه ، وتقليدهم في الأحكام ، وإحسان الظن بهم ( وعامتهم ) أي : ولعامة المسلمين ، ولعل حكمة ترك إعادة العامل هنا إشارة إلى حط مرتبتهم بسبب تبعيتهم للخواص من أئمتهم بخلاف ما قبله ، فإن كلا من المعمولات مستقل في قصد النصيحة ، ثم نصيحة العامة بإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية وكف الأذى عنهم وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ، وإعانتهم عليه قولا وفعلا ، وستر عوراتهم ، وسد خلاتهم ، ودفع المضار عنهم ، وجلب المنافع لهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق ، وتوقير كبيرهم ورحم صغيرهم ، وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غيبتهم وحسدهم والذب عن أموالهم وأعراضهم ، وغير ذلك من أحوالهم ، ومجمله أن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشر .

قال الطيبي : وجماع القول فيه أن النصيحة هي خلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه ، فلا يبعد أن يدخل فيه نفسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح ، وأن يأتي بها على طريقتها متداركة للفرطات ماحية للسيئات ، ويجعل قلبه محلا للنظر والفكر ، وروحه مستقرا للمحبة ، وسره منصا للمشاهدة ، وعلى هذا أعمال كل عضو من العين بأن يحملها على النظر إلى الآيات النازلة ، والأحاديث الواردة ، واللسان على النطق بالحق وتحري الصدق والمواظبة على ذكر الله وثنائه . قال تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ، ( رواه مسلم ) وروى البخاري في تاريخه صدر الحديث فقط وهو قوله : الدين النصيحة ، عن ثوبان والبزار عن ابن عمر .

قال النووي : هذا حديث عظيم الشأن ، وعليه مدار الإسلام والإيمان ، وأما ما قيل من أنه أحد أرباع الإسلام أي : الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام ، فليس كما قالوا ، بل المدار على هذا وحده ، وقال بعضهم : فيه أن النصيحة تسمى دينا وإسلاما وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول ، وقالوا : النصيحة فرض كفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه تقبل نصيحته ويطاع أمره ، وأمن على نفسه المكروه ، وإن خشي أذى فهو في سعة والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية