الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                            صفحة جزء
                                                                                            9842 وعن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : لما نزلنا أرض [ ص: 25 ] الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا ، وعبدنا الله وحده لا نؤذى ، ولا نسمع شيئا نكرهه ، فلما بلغ ذلك قريشا ، ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين ، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة ، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم ، فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية ، وبعثوا بذلك مع عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي - ، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي ، وأمروهما أمرهم ، وقالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم ، ثم قدموا للنجاشي هداياه ، ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم ، قالت : فخرجا فقدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار ، وخير جار ، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ، ولا يكلمهم ، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ، فقالوا لهما : نعم . ثم قربوا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهم ثم كلماه ، فقالا له : أيها الملك ، قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء ، فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت ، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأبنائهم وعشائرهم ; لنردهم إليهم ، فلهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم ، وعاتبوهم فيه . ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم ، فقالت بطارقته حوله : صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيبا ، وأعلم بما عابوا عليهم ، فأسلمهم إليهم ، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم . فغضب النجاشي ، وقال : لا ها الله ، ايم الله ، إذا لا أسلمهم إليهما ، ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، ورددتهم إلى قومهم ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاوروني . قالت : ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في الرجل إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول والله ما علمنا وما أمرنا [ ص: 26 ] به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن ، فلما جاءوه ، وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم فقال : ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم ؟ قالت : وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب - عليه السلام - قال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله عز وجل ; لنوحده ، ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دون الله من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وشهادة الزور ، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة ، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة . - قالت : فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به ، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فغدا علينا قومنا فعذبونا ، وفتنونا عن ديننا ; ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل ، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث ، فلما قهرونا وظلمونا ، وشقوا علينا ، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك ، واخترناك على من سواك ، ورغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك . قالت : فقال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت : فقال له جعفر : نعم . قالت : فقال له النجاشي : فاقرأه . فقرأ عليه صدرا من : ( كهيعص ) قالت : فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته ، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، ثم قال النجاشي : إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا ولا أكاد .

                                                                                            قالت أم سلمة : فلما خرجا من عنده ، قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غدا أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم ، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - : لا تفعل فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا . قال : والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم - عليه السلام عبد - قالت : ثم غدا عليه الغد ، فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما . فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه ؟ ! [ ص: 27 ] قالت : فأرسل إليهم يسألهم عنه ، قالت : ولم ينزل بنا مثلها ، واجتمع القوم ، فقال بعضهم لبعض : ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه ، قالوا : نقول والله ما قال الله - عز وجل - وما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائن في ذلك ما هو كائن ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما تقول في عيسى بن مريم ؟ فقال له جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - : " هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول " . قال : فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا ثم قال : ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود . فتناخرت بطارقه حوله حين قال ما قال . فقال : وإن نخرتم والله ، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم : الآمنون - من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم ، ثم من سبكم غرم . ما أحب أن لي دبرا ذهبا ، وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة : الجبل - ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي فيهما ، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ فيه الرشوة ، وما أطاع الناس في ، فأطيعهم فيه . فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به ، وأقمنا عنده في خير دار مع خير جار ، فوالله إنا لعلى ذلك إذ نزل به - يعني : من ينازعه في ملكه - قالت : والله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك ; تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي ، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه .

                                                                                            قالت : وسار النجاشي وبينهما عرض النيل ، قالت : فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا ؟ قالت : فقال الزبير بن العوام : أنا ، قالت : وكان من أحدث القوم سنا . قالت : فنفخوا له قربة فجعلوها في صدره فسبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ، ثم انطلق حتى حضرهم ، قالت : ودعونا الله عز وجل للنجاشي بالظهور على عدوه ، والتمكين له في بلاده . واستوسق عليه أمر الحبشة ، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة
                                                                                            . رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق ، وقد صرح بالسماع .

                                                                                            التالي السابق


                                                                                            الخدمات العلمية