الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه . والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب . قال تعالى : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه } الآية .

                وقال { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله } . و " رحمته " اسم جامع لكل خير . " وعذابه " اسم جامع لكل شر . ودار الرحمة الخالصة هي الجنة ودار العذاب الخالص هي النار وأما الدنيا فدار امتزاج فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنة فالجنة اسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر إلى وجه الله كما في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد . يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه . فيقولون : ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ؟ ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار ؟ قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه } وهو الزيادة . ومن هنا يتبين زوال الاشتباه في قول من قال : ما عبدتك شوقا إلى جنتك ولا خوفا من نارك ; وإنما عبدتك شوقا إلى رؤيتك فإن هذا القائل ظن هو ومن تابعه أن الجنة لا يدخل في مسماها إلا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماع ونحو ذلك مما فيه التمتع بالمخلوقات كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية أو من يقر بها ويزعم أنه لا تمتع بنفس رؤية الله كما يقوله طائفة من المتفقهة . فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة [ ص: 63 ] لا يدخل فيه إلا التمتع بالمخلوقات ; ولهذا قال بعض من غلط من المشايخ لما سمع قوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } قال فأين من يريد الله وقال آخر في قوله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } قال إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر إليه وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخل فيها النظر . و " التحقيق " أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيها النظر إلى وجه الله وهو من النعيم الذي ينالونه في الجنة ; كما أخبرت به النصوص .

                وكذلك أهل النار فإنهم محجوبون عن ربهم يدخلون النار مع أن قائل هذا القول إذا كان عارفا بما يقول فإنما قصده أنك لو لم تخلق نارا أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب إليك والنظر إليك ومقصوده بالجنة هنا مما يتمتع فيه المخلوق . وأما عمل الحي بغير حب ولا إرادة أصلا فهذا ممتنع وإن تخيله بعض الغالطين من النساك وظن أن كمال العبد أن لا تبقى له إرادة أصلا فذاك لأنه تكلم في حال الفناء والفاني - الذي يشتغل بمحبوبه - له إرادة ومحبة ولكن لا يشعر بها فوجود المحبة شيء والإرادة شيء والشعور بها شيء آخر . فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط ; فالعبد لا يتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وإرادة ; ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { أصدق الأسماء حارث وهمام } فكل إنسان له حرث وهو العمل وله هم وهو أصل [ ص: 64 ] الإرادة ولكن تارة يقوم بالقلب من محبة الله ما يدعوه إلى طاعته ومن إجلاله والحياء منه ما ينهاه عن معصيته كما قال عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أي هو لم يعصه ولو لم يخفه فكيف إذا خافه فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته . فالراجي الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه والتنعم بتجليه له فمعلوم أن هذا من توابع محبته له فالمحبة هي التي أوجبت محبة التجلي والخوف من الاحتجاب وإن تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة ; ولهذا يكون اشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شيء كما في الحديث { إن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس } وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته . فالخوف من التعذب بمخلوق والرجاء له يسوقه إلى محبة الله التي هي الأصل . وهذا كله ينبني على " أصل المحبة " فيقال قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين كما في قوله : { والذين آمنوا أشد حبا لله } وقوله تعالى { يحبهم ويحبونه } وقوله تعالى { أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله } .

                وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار } [ ص: 65 ] بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما في قوله تعالى { أحب إليكم من الله ورسوله } وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين } وفي صحيح البخاري { عن عمر بن الخطاب أنه قال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال : لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله لأنت أحب إلي من نفسي قال : الآن يا عمر } وكذلك محبة صحابته وقرابته كما في الصحيح عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار } وقال : { لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر } وقال علي رضي الله عنه " إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " وفي السنن أنه { قال للعباس : والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتي } يعني بني هاشم . وقد روي حديث عن ابن عباس مرفوعا أنه قال : { أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي لأجلي } وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى : { واتخذ الله إبراهيم خليلا } وقال تعالى : { يحبهم ويحبونه } وقال تعالى : { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }

                { وأقسطوا إن الله يحب المقسطين }

                { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين }

                { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين }

                { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص }

                { بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين } وأما الأعمال التي يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون . وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشايخ الدين المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية ; بل هي أكمل محبة فإنها كما قال تعالى : { والذين آمنوا أشد حبا لله } وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية .

                وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين زعما منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط . خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم [ ص: 67 ] موسى تكليما ثم نزل فذبحه وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه وإليه أضيف قول الجهمية فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا إلى الموافقة لهم على ذلك .

                وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلا وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها وهم ينكرون في الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلا وموسى كليما لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب كما قيل :

                قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا

                ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله } - يعني نفسه - .

                وفي رواية : { إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } وفي رواية : { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم [ ص: 68 ] خليلا } فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه . مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصا كما { قال لمعاذ : والله إني لأحبك } وكذلك قوله للأنصار . وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ابنه أسامة حبه وأمثال ذلك . { وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة قال فمن الرجال . قال أبوها } . { وقال لفاطمة ابنته رضي الله عنها ألا تحبين ما أحب ؟ قالت : بلى قال : فأحبي عائشة } . { وقال للحسن : اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه } وأمثال هذا كثير . فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال : { إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا } فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هي من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوبا لذاته لا لشيء آخر . إذ المحبوب لشيء غيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ومن كمالها لا تقبل الشركة والمزاحمة لتخللها المحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب . فالخلة تنافي المزاحمة وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبا لذاته [ ص: 69 ] محبة لا يزاحمه فيها غيره وهذه محبة لا تصلح إلا لله فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره - إذا كان محبوبا بحق - فإنما يحب لأجله وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله تعالى .

                وإذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكون الله محبوبا لذاته ينكر مخاللته . وكذلك أيضا إن أنكر محبته لأحد من عباده فهو ينكر أن يتخذه خليلا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد . وكذلك تكليمه لموسى أنكروه لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعال فكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو علم أو أن يستوي أو أن يجيء فكذلك ينكرون أن يتكلم أو يكلم فهذا حقيقة قولهم . { كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم } .

                لكن لما كان الإسلام ظاهرا والقرآن متلوا لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام أخذوا يلحدون في أسماء الله ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب إليه وهذا جهل عظيم فإن محبة المتقرب إلى المتقرب إليه تابع لمحبته وفرع عليه فمن لا يحب الشيء لا يمكن أن يحب التقرب إليه إذ التقرب وسيلة ومحبة الوسيلة تبع لمحبة المقصود فيمتنع أن تكون الوسيلة إلى الشيء المحبوب هي المحبوب دون الشيء المقصود بالوسيلة . [ ص: 70 ] وكذلك " العبادة والطاعة " إذا قيل في المطاع المعبود : إن هذا يحب طاعته وعبادته فإن محبته ذلك تبع لمحبته وإلا فمن لا يحب لا يحب طاعته وعبادته ومن كان لا يعمل لغيره إلا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فإنه يكون معاوضا له أو مفتديا منه لا يكون محبا له . ولا يقال إن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فإن محبة المقصود وإن استلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة فإن ذلك يقتضي أن يعبر بلفظين محبة العوض والسلامة عن محبة العمل .

                أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض ألا ترى أن من استأجر أجيرا بعوض لا يقال إن الأجير يحبه بمجرد ذلك بل قد يستأجر الرجل من لا يحبه بحال بل من يبغضه وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال إنه يحبه بل يكون مبغضا له . فعلم أن ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع ألا يكون معناه إلا مجرد محبة العمل الذي ينالون به بعض الأغراض المخلوقة من غير أن يكون ربهم محبوبا أصلا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية