الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                صفحة جزء
                                                                                5538 ( 2 ) حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا : كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين هدنة ، فكان بين بني كعب وبين بني بكر قتال بمكة ، فقدم صريخ بني كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

                                                                                لاهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا     فانصر هداك الله نصرا عتدا
                                                                                وادع عباد الله يأتوا مددا

                                                                                فمرت سحابة فرعدت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذه لترعد بنصر بني كعب ، ثم قال لعائشة : جهزيني ولا تعلمن بذلك أحدا ، فدخل عليها أبو بكر فأنكر بعض شأنها ، فقال : ما هذا ؟ قالت : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهزه ، قال : إلى أين ؟ قالت : إلى مكة ، قال : فوالله ما انقضت الهدنة بيننا وبينهم بعد ، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنهم أول من غدر ، ثم أمر بالطريق فحبست ، ثم خرج وخرج المسلمون معه ، فغم لأهل مكة لا يأتيهم خبر ، فقال أبو سفيان لحكيم بن حزام : أي حكيم ، والله لقد غمنا واغتممنا ، فهل لك أن تركب ما بيننا وبين مرو ، لعلنا أن نلقى خبرا ، فقال له بديل بن ورقاء الكعبي من خزاعة : وأنا معكم ، قالا : وأنت إن شئت ، قال : فركبوا حتى إذا دنوا من ثنية مرو أظلموا فأشرفوا على الثنية ، فإذا النيران قد [ ص: 528 ] أخذت الوادي كله ، قال أبو سفيان لحكيم : ما هذه النيران ؟ قال بديل بن ورقاء : هذه نيران بني عمرو ، جوعتها الحرب ، قال أبو سفيان : لا وأبيك لبنو عمرو أذل وأقل من هؤلاء ، فتكشف عنهم الأراك ، فأخذهم حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من الأنصار ، وكان عمر بن الخطاب تلك الليلة على الحرس ، فجاءوا بهم إليه ، فقالوا : جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة ، فقال عمر وهو يضحك إليهم : والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم ، قالوا : قد والله أتيناك بأبي سفيان ، فقال : احبسوه ، فحبسوه حتى أصبح ، فغدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له : بايع ، فقال : لا أجد إلا ذاك أو شرا منه ، فبايع ، ثم قيل لحكيم بن حزام : بايع ، فقال : أبايعك ولا أخر إلا قائما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما ، فلما ولوا قال أبو بكر : أي رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب السماع يعني الشرف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن إلا ابن خطل ، ومقيس بن صبابة الليثي ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، والقينتين ، فإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فاقتلوهم ، قال : فلما ولوا قال أبو بكر : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو أمرت بأبي سفيان فحبس على الطريق وأذن في الناس بالرحيل ، فأدركه العباس فقال : هل لك إلى أن تجلس حتى تنظر ؟ قال : بلى ، ولم يكن ذلك إلا أن يرى ضعفة فيتناولهم ، فمرت جهينة فقال : أي عباس ، من هؤلاء ؟ قال : هذه جهينة ، قال : ما لي ولجهينة ، والله ما كانت بيني وبينهم حرب قط ، ثم مرت مزينة فقال : أي عباس ، من هؤلاء ؟ قال : هذه مزينة ، قال : ما لي ولمزينة ، والله ما كانت بيني وبينهم حرب قط ، ثم مرت سليم فقال : أي عباس ، من هؤلاء ؟ قال : هذه سليم ، قال : ثم جعلت تمر طوائف العرب فمرت عليه أسلم وغفار فيسأل عنها فيخبره العباس ، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات الناس في المهاجرين الأولين والأنصار في لامة تلتمع البصر ، فقال : أي عباس ، من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين الأولين والأنصار قال : لقد أصبح ابن أخيك عظيم الملك ، قال : لا والله ، ما هو بملك ، ولكنها النبوة ، وكانوا عشرة آلاف أو اثني عشر ألفا ، قال : ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية إلى سعد بن عبادة ، فدفعها سعد إلى ابنه قيس بن سعد ، وركب أبو سفيان فسبق الناس حتى اطلع عليهم من الثنية ، قال له أهل مكة : ما وراءك ؟ قال : ورائي الدهم ، ورائي ما لا قبل لكم به ، ورائي من لم أر مثله ، من دخل داري فهو آمن ، فجعل الناس يقتحمون داره ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف بالحجون بأعلى مكة ، وبعث الزبير بن العوام في الخيل في أعلى الوادي ، وبعث خالد بن الوليد في الخيل في أسفل الوادي ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لخير أرض الله [ ص: 529 ] وأحب أرض الله إلى الله ، إني والله لو لم أخرج منك ما خرجت ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من النهار ، وهي ساعتي هذه ، حرام لا يعضد شجرها ، ولا يحتش حشيشها ولا يلتقط ضالتها إلا منشد فقال له رجل يقال له شاه ، والناس يقولون : قال له العباس : يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لبيوتنا وقبورنا وقيوننا أو لقيوننا وقبورنا ، فأما ابن خطل فوجد متعلقا بأستار الكعبة فقتل ، وأما مقيس بن صبابة فوجدوه بين الصفا والمروة فبادره نفر من بني كعب ليقتلوه ؛ فقال ابن عمه نميلة : خلوا عنه ، فوالله لا يدنو منه رجل إلا ضربته بسيفي هذا حتى يبرد ، فتأخروا عنه فحمل عليه بسيفه ففلق به هامته ، وكره أن يفخر عليه أحد ، ثم طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت ، ثم دخل عثمان بن طلحة فقال : أي عثمان ، أين المفتاح ؟ فقال هو عند أمي سلامة ابنة سعد ، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : لا واللاتي والعزى ، لا أدفعه إليه أبدا ، قال : إنه قد جاء أمر غير الأمر الذي كنا عليه ، فإنك إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ، قال : فدفعته إليه ، قال : فأقبل به حتى إذا كان وجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عثر فسقط المفتاح منه ، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحنى عليه ثوبه ، ثم فتح له عثمان فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ، فكبر في زواياها وأرجائها ، وحمد الله ، ثم صلى بين الأسطوانتين ركعتين ، ثم خرج فقام بين البابين ، فقال علي : فتطاولت لها ورجوت أن يدفع إلينا المفتاح ، فتكون فينا السقاية والحجابة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين عثمان ، هاكم ما أعطاكم الله ، فدفع إليه المفتاح ، ثم رقى بلال على ظهر الكعبة فأذن ، فقال خالد بن أسيد : ما هذا الصوت ؟ قالوا : بلال بن رباح ، قال : عبد أبي بكر الحبشي ، قالوا ، نعم ، قال : أين ؟ قالوا : على ظهر الكعبة ، قال : على مرقبة بني أبي طلحة ؟ قالوا : نعم ، قال : ما يقول ؟ قالوا : يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، قال : لقد أكرم الله أبا خالد عن أن يسمع هذا الصوت يعني أباه ، وكان ممن قتل يوم بدر في المشركين ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، وجمعت له هوازن بحنين ، فاقتتلوا ، فهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا الآية ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دابته فقال : اللهم إنك إن شئت لم تعبد بعد اليوم ، شاهت الوجوه ، ثم رماهم بحصاة كانت في يده ، فولوا مدبرين ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السبي والأموال فقال لهم : إن شئتم فالفداء ، وإن شئتم فالسبي قالوا : لن نؤثر اليوم على الحسب شيئا ، فقال [ ص: 530 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خرجت فاسألوني فإني سأعطيكم الذي لي ، ولن يتعذر علي أحد من المسلمين ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحوا إليه ، فقال أما الذي لي فقد أعطيتكموه ، وقال المسلمون مثل ذلك إلا عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فإنه قال : أما الذي لي فإني لا أعطيه ، قال : أنت على حقك من ذلك ، قال : فصارت له يومئذ عجوز عوراء ، ثم حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف قريبا من شهر ، فقال عمر بن الخطاب : أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعني أدخل عليهم فأدعوهم إلى الله ، قال : إنهم إذا قاتلوك ، فدخل عليهم عروة فدعاهم إلى الله فرماه رجل من بني مالك بسهم فقتله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثله في قومه مثل صاحب ياسين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا مواشيهم وضيقوا عليهم ، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا حتى إذا كان بنخلة جعل الناس يسألونه ، قال أنس : حتى انتزعوا رداءه عن ظهره ، فأبدوا عن مثله فلقة القمر ، فقال : ردوا علي ردائي ، لا أبا لكم ، أتبخلونني فوالله أن لو كان ما بينهما إبلا وغنما لأعطيتكموه ، فأعطى المؤلفة يومئذ مائة مائة من الإبل ، وأعطى الناس ، فقالت الأنصار عند ذلك ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قلتم كذا وكذا ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، قالوا : بلى ، قال : ألم أجدكم أعداء فألف الله بين قلوبكم بي ، قالوا : بلى قال : أما إنكم لو شئتم قلتم : قد جئتنا مخذولا فنصرناك ، قالوا : الله ورسوله آمن ، قال : لو شئتم قلتم : جئتنا طريدا آويناك ، قالوا : الله ورسوله آمن ، ولو شئتم لقلتم : جئتنا عائلا فآسيناك ، قالوا : الله ورسوله آمن ، قال : أفلا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء والبعير ، وتنقلبون برسول الله إلى دياركم ، قالوا : بلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس دثار ، والأنصار شعار ، وجعل على المقاسم عباد بن وقش أخا بني عبد الأشهل ، فجاء رجل من أسلم عاريا ليس عليه ثوب ، فقال : اكسني من هذه البرود بردة ، قال : إنما هي مقاسم المسلمين ، ولا يحل لي أن أعطيك منها شيئا ، فقال قومه : اكسه منها بردة ، فإن تكلم فيها أحد فهي من قسمنا وأعطياتنا ، فأعطاه بردة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما كنت أخشى هذا عليه ، ما كنت أخشاكم عليه ، فقال : يا رسول الله ، ما أعطيته إياها حتى قال قومه : إن تكلم فيها أحد فهي من قسمنا وأعطياتنا ، فقال : جزاكم الله خيرا ، جزاكم الله خيرا


                                                                                التالي السابق


                                                                                الخدمات العلمية