الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        شروط العمل بخبر الواحد

                        فرع

                        العمل بخبر الواحد له شروط :

                        منها ما هو في المخبر ، وهو الراوي . ومنها ما هو في المخبر عنه ، وهو مدلول الخبر . ومنها ما هو في الخبر نفسه ، وهو اللفظ الدال .

                        أما الشروط الراجعة إلى الراوي فخمسة :

                        الأول : التكليف ، فلا تقبل رواية الصبي والمجنون ، ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي ، واعترض عليه العنبري ، وقال : بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة ، كما حكاه القاضي حسين في تعليقه ، قال : ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره .

                        قال الفوراني : الأصح قبول روايته ، والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم ; لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب ، وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة ، وقد رجعوا إلى النساء ، وسألوهن من وراء حجاب .

                        [ ص: 178 ] قال الغزالي في المنخول : محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه ، أما غيره فلا يقبل قطعا .

                        وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية ، أما لو تحملها صبيا وأداها مكلفا ، فقد أجمع السلف على قبولها ، كما في رواية ابن عباس والحسنين ومن كان مماثلا لهم كمحمود بن الربيع فإنه روى حديث : أنه صلى الله عليه وآله وسلم مج في فيه مجة وهو ابن خمس سنين واعتمد العلماء روايته .

                        وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ، ولم ينكر ذلك أحد ، وهكذا لو تحمل وهو فاسق ، أو كافر ، ثم روى وهو عدل مسلم ، ولا أعرف خلافا في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه ، أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق ، فلا يصح ذلك ; لأنه وقت الجنون غير ضابط .

                        وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء ، لمسيس الحاجة إلى ذلك ، لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ، ولم يحضرهم من تصح شهادته ، وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة ، والأولى عدم القبول ، وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي ، على أن نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم .

                        الشرط الثاني : الإسلام ، فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعا .

                        [ ص: 179 ] قال الرازي في المحصول : أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته ، سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب ، أو لم يعلم . قال : والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا ؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته ، وإلا قبلناها ، وهو قول أبي الحسين البصري ، وقال القاضي أبو بكر ، والقاضي عبد الجبار : لا تقبل روايتهم .

                        لنا أن المقتضي للعمل بها قائم ، ولا معارض ، فوجب العمل بها .

                        بيان أن المقتضي قائم : أن اعتقاده لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها ، فيحصل ظن الصدق ، فيجب العمل بها ، وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته ، وذلك الكفر منتف هاهنا . قال : واحتج المخالف بالنص والقياس .

                        أما النص : فقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق ، وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره .

                        وأما القياس : فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا نقبل روايته ، فكذا هذا الكافر ، والجامع : أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين ، وهذا منصب شريف ، والكفر يقتضي الإذلال ، وبينهما منافاة ، أقصى ما في الباب أن يقال : هذا الكافر جاهل لكونه كافرا ، لكنه لا يصلح عذرا .

                        والجواب عن الأول : أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة .

                        وعن الثاني : الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل ، وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة ، ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي .

                        والحاصل أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقا لم تقبل روايته قطعا ، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه ، أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة ، أو ترهيب عن معصية ، فقال الجمهور : ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي : لا يقبل قياسا على الفاسق ، بل هو أولى ، وقال أبو الحسين البصري : يقبل ، وهو رأي الجويني وأتباعه .

                        والحق : عدم القبول مطلقا في الأول ، وعدم قبوله في ذلك الأمر [ ص: 180 ] ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته ، وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته ، وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال :

                        الأول ، رد روايته مطلقا ; لأنه قد فسق ببدعته ، فهو كالفاسق بفعل المعصية ، وبه قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي .

                        والقول الثاني : أنه يقبل ، وهو ظاهر مذهب الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف .

                        والقول الثالث : أنه إذا كان داعية إلى بدعته ، لم يقبل ، وإلا قبل ، وحكاه القاضي عبد الوهاب في المخلص عن مالك وبه جزم سليم .

                        قال القاضي عياض : وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ، ويحتمل أنه لا يقبل مطلقا انتهى .

                        والحق أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها ، لا في غير ذلك . قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين ، قال : وهو أعدل المذاهب وأولاها .

                        وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجا واستشهادا ، [ ص: 181 ] كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما ، ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك .

                        قال ابن دقيق العيد : جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقا عليه ، وليس كما قال .

                        وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام : الخلاف إنما هو في غير الداعية ، أما الداعية ، فهو ساقط عند الجمع .

                        قال أبو الوليد الباجي : الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها ، فلم يختلف في ترك حديثه .

                        الشرط الثالث : العدالة ، قال الرازي في المحصول : هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا ، حتى يحصل ثقة النفس بدقة ، ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر ، وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة وسرقة باقة من البقل ، وعن المباحات القادحة في المروءة ، كالأكل في الطريق ، والبول في الشارع ، وصحبة الأرذال ، والإفراط في المزاح ، والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن معه جراءته على الكذب يرد الرواية ، وما لا فلا . انتهى .

                        وأصل العدالة في اللغة : الاستقامة ، يقال : طريق عدل ، أي مستقيم ، وتطلق على استقامة السيرة والدين ، قالالزركشي في البحر : واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ، ولكن اختلف في معناها ، فعند الحنفية : عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق ، وعندنا : [ ص: 182 ] ملكة في النفس ، تمنع عن اقتراف الكبائر ، وصغائر الخسة كسرقة لقمة ، والرذائل المباحة كالبول في الطريق ، والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة .

                        قال ابن القشيري : والذي صح عن الشافعي أنه قال : في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية ، وفي المسلمين من يمحض المعصية ، ولا يمزجها بالطاعة ، فلا سبيل إلى رد الكل ، ولا إلى قبول الكل ، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته ، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها .

                        قال ابن السمعاني : لا بد في العدل من أربع شرائط : المحافظة على فعل الطاعة ، واجتناب المعصية ، وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين ، أو عرض ، وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ، ويكسب الندم ، وأن لا يعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع .

                        قال الجويني : الثقة هي المعتمد عليها في الخبر ، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل .

                        وقال ابن الحاجب في حد العدالة : هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ، ليس معها بدعة ، فزاد قيد عدم البدعة ، وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا .

                        والأولى أن يقال في تعريف العدالة : إنها التمسك بآداب الشرع ، فمن تمسك بها فعلا وتركا فهو العدل المرضي ، ومن أخل بشيء منها ، فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه ، كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل .

                        وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال ، فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران ، وهما الرواية والشهادة .

                        نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفا لا شرعا ، فهو تارك للمروءة العرفية ، ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية .

                        وقد اختلف الناس ، هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر ، أم هي قسم واحد ؟ فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ويدل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه [ ص: 183 ] وسلم متواترا من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر ، وبعضها بأكبر الكبائر .

                        وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم ، قالوا : إن المعاصي كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر ، كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا ، وكلها كبائر .

                        قالوا : ومعنى قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيئاتكم التي هي دون الكفر ، والقول الأول راجح .

                        وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي ، فقال إن المعاصي تنقسم إلى ثلاثة أقسام : صغيرة ، وكبيرة ، وفاحشة ; فقتل النفس بغير حق كبيرة ، فإن قتل ذا رحم له ففاحشة ، فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة ، وجعل سائر الذنوب هكذا .

                        ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد ، أو لا تعرف إلا بالعدد ؟ فقال الجمهور : إنها تعرف بالحد ، ثم اختلفوا في ذلك ، فقيل : إنها المعاصي الموجبة للحد ، وقال بعضهم : هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد ، وقال آخرون : ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، وقيل : ما كان فيه مفسدة .

                        وقال الجويني : ما نص الكتاب على تحريمه ، أو وجب في حد ، وقيل : ما ورد الوعيد عليه مع الحد ، أو لفظ يفيد الكبر .

                        وقال جماعة : إنها لا تعرف إلا بالعدد ، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا ؟ فقيل : هي سبع ، وقيل : تسع ، وقيل : عشر ، وقيل : اثنتا عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، وقيل : ست وثلاثون ، وقيل : سبعون ، وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك .

                        وقد جمع ابن حجر الهيثمي فيها مصنفا حافلا سماه " الزواجر في الكبائر " وذكر فيه نحو أربعمائة معصية .

                        [ ص: 184 ] وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين ، ومن المنصوص عليه منها القتل ، والزنا ، واللواطة ، وشرب الخمر ، والسرقة ، والغصب ، والقذف ، والنميمة ، وشهادة الزور ، واليمين الفاجرة ، وقطيعة الرحم ، والعقوق ، والفرار من الزحف ، وأخذ مال اليتيم ، وخيانة الكيل والوزن ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقديم الصلاة وتأخيرها ، وضرب المسلم ، وسب الصحابة ، وكتمان الشهادة ، والرشوة ، والدياثة ، ومنع الزكاة ، واليأس من الرحمة ، وأمن المكر ، والظهار ، وأكل لحم الخنزير ، والميتة ، وفطر رمضان ، والربا ، والغلول ، والسحر ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب .

                        وقد قيل : إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة ، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به ، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية ; فإنه قال : لا صغيرة مع إصرار ، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ ، وجعله حديثا ، ولا يصح ذلك ، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه ، فالإصرار على الصغيرة صغيرة ، والإصرار على الكبيرة كبيرة .

                        وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق .

                        وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق ، فقال : إنه غير مقبول عند أهل العلم ، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم .

                        قال الجويني : والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يبوحوا بقبول روايته ، فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع .

                        قال الرازي في المحصول إذا أقدم على الفسق ، فإن علم كونه فسقا لم تقبل روايته بالإجماع ، وإن لم يعلم كونه فسقا ، فإما أن يكون مظنونا أو مقطوعا ، فإن كان مظنونا قبلت روايته بالاتفاق . قال : وإن كان مقطوعا به قبلت أيضا .

                        لنا أن ظن صدقه راجح ، والعلم بهذا الظن واجب ، والمعارض المجمع عليه منتف ، فوجب العمل به .

                        احتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل .

                        [ ص: 185 ] فسقه ، لكن جهله بفسقه فسق آخر ، فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية ، فالفسقان أولى بذلك المنع .

                        والجواب : أنه إذا علم كونه فسقا دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلافه إذا لم يعلم ذلك .

                        ويجاب عن هذا الجواب : بأن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه ، وتهاونه بما يجب عليه من معرفته .

                        واختلف أهل العلم في رواية المجهول : أي مجهول الحال مع كونه معروف العين ، برواية عدلين عنه ، فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم : أن روايته غير مقبولة ، وقال أبو حنيفة : تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهرا ، وقال جماعة : إن كان الراويان ، أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل ، وإلا فلا .

                        وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهرا ولا باطنا ، وأما من كان عدلا في الظاهر ، ومجهول العدالة في الباطن ، فقال أبو حنيفة : يقبل ما لم يعلم الجرح . وقال الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة ، وحكاه الكيا عن الأكثرين .

                        وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك ، قالوا : وأما المستور في زماننا ، فلا يقبل لكثرة الفساد ، وقلة الرشاد .

                        وقال الجويني بالوقف إذا روى التحريم إلى ظهور حاله .

                        وأما مجهول العين ، وهو من لم يشتهر ، ولم يرو عنه إلا راو واحد ، فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ، ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام .

                        وقال ابن عبد البر : إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان ، فإنه تنتفي ، وترتفع عنه الجهالة العينية ، وإلا فلا .

                        وقال أبو الحسين بن القطان : إن زكاه أحد من أئمة الجرح والتعديل ، مع روايته [ ص: 186 ] عنه ، وعمله بما رواه قبل ، وإلا فلا ، وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في ثقاته ، فإنه يحكم برفع الجهالة ، برواية واحد .

                        وحكي ذلك عن النسائي أيضا . قال أبو الوليد الباجي : ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعدا انتفت عنه الجهالة ، وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول ; لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد ، لا يعرفون حاله ، ولا يخبرون شيئا من أمره ، ويحدثون بما رووا عنه ، ولا يخرجه راويتهم عنه عن الجهالة إذ لم يعرفوا عدالته . انتهى .

                        وفيه نظر ; لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعدا عنه ، لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق .

                        والحق أنها لا تقبل رواية مجهول العين ، ولا مجهول الحال ; لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلا ، وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن ، كقوله سبحانه إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وقام الإجماع على قبول رواية العدل ، فكان كالمخصص لذلك العموم ، فبقي من ليس بعدل داخلا تحت العمومات ، وأيضا قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ، ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقا وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال ; لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عنه ، فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط ، وأيضا وجود الفسق مانع من قبول روايته ، فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع .

                        وأما استدلال من قال بالقبول بما يروونه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم نحن نحكم بالظاهر ، فقال الذهبي والمزي وغيرهما من الحفاظ : لا أصل له ، وإنما هو من كلام بعض السلف ، ولو سلمنا أن له أصلا لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع ; لأن صدق المجهول غير ظاهر ، بل صدقه وكذبه مستويان ، وإذا عرفت هذا فلا يفيدهم ما [ ص: 187 ] استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أقضي بنحو ما أسمع وهو في الصحيح ، وبما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال : كان ظاهرك علينا ، وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم .

                        الشرط الرابع : الضبط فلا بد أن يكون الراوي ضابطا لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه ، وقلة غلطه وسهوه ، فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه ، وإن كان قليل الغلط قبل خبره ، إلا فيما يعلم أنه غلط فيه . كذا قال ابن السمعاني وغيره .

                        قال أبو بكر الصيرفي : من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره ، ولم يسقط لذلك حديثه ، ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره ; لأن المدار على حفظ الحكاية .

                        قال الترمذي في العلل : كل من كان متهما في الحديث بالكذب ، أو كان مغفلا يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى .

                        والحاصل أن الأحوال ثلاثة : إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود ، إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه ، وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول ، إلا فيما علم أنه أخطأ فيه ، وإن استويا فالخلاف .

                        قال القاضي عبد الجبار : يقبل ; لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه .

                        وقال الشيخ أبو إسحاق : إنه يرد .

                        وقيل : إنه يقبل خبره إذا كان مفسرا ، وهو أن يذكر من روى عنه ، ويعين وقت السماع منه ، وما أشبه ذلك ، وإلا فلا يقبل ، وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة ، ففي [ ص: 188 ] الرواية أولى .

                        وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث : أن الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح ، وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن ، وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف ، ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيما رواه ، قال الكيا الطبري : ولا يشترط انتفاء الغفلة ، ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه ، إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه . وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه ، كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ ، فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية ، وأنبههم فيما يتعلق بها ، وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي .

                        الشرط الخامس : أن لا يكون الراوي مدلسا ، وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد .

                        أما التدليس في المتن : فهو أن يزيد في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلام غيره ، فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

                        وأما التدليس في الإسناد : فهو على أنواع :

                        أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء ، فيعبر عن الراوي ، وعن أبيه بغير اسميهما ، وهذا نوع من الكذب .

                        وثانيهما : أن يسميه بتسمية غير مشهورة ، فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي ، وذلك مثل من يكون مشهورا باسمه ، فيذكره الراوي بكنيته ، أو العكس إيهاما للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل ، فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل ، فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفا ، وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ; ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف ، فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي . وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلا على كل حال ، فليس هذا النوع من التدليس بجرح ، كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح .

                        وثالثهما : أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب ، وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ، ويروي الحديث عن شيخ شيخه ، فإن كان المتروك ضعيفا ، فذلك من الخيانة في الرواية ، ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة ، وإن كان المتروك ثقة ، [ ص: 189 ] وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ، ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحا في عدالة الراوي ، لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة ، نحو أن يقول : قال فلان ، أو روي عن فلان ، أو نحو ذلك . أما لو قال : حدثنا فلان ، أو أخبرنا ، وهو لم يحدثه ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره ، فذلك كذب يقدح في عدالته .

                        والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال : حدثنا ، أو أخبرنا ، أو سمعت ، لا إذا لم يقل كذلك ; لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية