الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 249 ] 572 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي بن كعب : أمرت أن أقرأ عليك القرآن ، أو : أمرت أن أقرئك القرآن

3620 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرني الأجلح ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقرأ عليك القرآن ، قال : قلت : سماني لك ربك عز وجل ؟ قال : نعم . فقرأ علي : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا هو خير مما تجمعون . بالتاء جميعا .

[ ص: 250 ] [ ص: 251 ]

3621 - حدثنا الحسن بن عبد الله بن منصور ، قال : حدثنا الهيثم بن جميل ، قال : حدثنا ابن المبارك ، ثم ذكر بإسناده مثله .

قال : فكان في هذا الحديث إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيا رضي الله عنه أنه أمر أن يقرأ عليه القرآن ، وقد روي أن الذي كان قاله له خلاف ما في هذا الحديث .

3622 - حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن أسلم المنقري ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ، [ ص: 252 ] عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلت علي سورة ، وأمرت أن أقرئكها ، قال : قلت له : ففرحت ؟ قال : وما يمنعني وهو يقول : بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا .

قال : فكان في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرئه سورة من القرآن أنزلت عليه ، وكان إسناد هذا الحديث أحسن إسنادا من الحديث الذي قبله ، لجلالة أسلم المنقري وعلو قدره في الرواية على قدر الأجلح [ ص: 253 ] فيها ، ولعلو سعيد بن عبد الرحمن في ذلك على عبد الله بن عبد الرحمن وشهرته ، وكثرة رواياته .

3623 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبيا فقال : إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن . قال : الله عز وجل سماني لك ؟ فقال : الله عز وجل سماك لي . فجعل يبكي . قال قتادة : ونبئت أنه قرأ عليه : لم يكن الذين كفروا .

[ ص: 254 ] قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي ، فوافق الحديث الأول ، وكان فيه أن الذي قرأ عليه سورة من القرآن وهي : لم يكن ، فكان بذلك قارئا عليه القرآن .

3624 - وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عفان أيضا ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا علي بن زيد ، عن عمار بن أبي عمار ، قال : سمعت أبا حبة البدري يقول : لما نزلت : لم يكن الذين كفروا . إلى آخرها ، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، إن ربك عز وجل يأمرك أن تقرئها أبيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه [ ص: 255 ] السورة ، قال أبي : وذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فبكى أبي .

قال أبو جعفر : فكان في هذا الحديث أن الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرئه أبيا من القرآن إنما هو سورة منه من القرآن ، وهذا جائز في اللغة أن يطلق عليه اسم القرآن موجود في كتاب الله ، فمنه قوله عز وجل : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا . وقوله : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم . وقوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن . وإنما كان ذلك على ما سمعوه منه لا على كله ، وقد روينا عن ابن عباس فيما تقدم منا في كتابنا هذا أن الذي كانوا سمعوه منه هو ما كان يقرؤه في صلاة الصبح ، فإن لم يكن ذكرناه ، فسنذكره فيما بعد من كتابنا هذا إن شاء الله .

وإنما حملناه على ذكر ما جئنا به في هذا الباب أن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم كان ذكر لنا عن الشافعي أنه قال له : أدل الأشياء على أن لا سجود في المفصل من القرآن حديث أبي في جوابه عطاء بن يسار ، لما سأله عن السجود في المفصل ، فأعلمه أن لا سجود فيه .

[ ص: 256 ]

وما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا داود بن قيس الفراء ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، أنه سأل أبي بن كعب : أفي شيء من المفصل سجدة ؟ قال : لا .

قال : فأبي قد قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، فمر بمواضع السجود فوقف على ما سجد فيه منه ، وعلى ما لم يسجد فيه منه ، فكان نفيه أن يكون في المفصل سجود ما قد دل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن سجد فيه في قراءته إياه عليه ، فنقلنا ذلك إلى ابن أبي عمران ، فقال : هذا كلام فاسد ; لأنه لو كان ما حكاه عن أبي ينفي أن يكون في المفصل سجود ; لكان ما روي عن عبد الله بن مسعود من السجود في المفصل أدل على أن فيه سجودا من ذلك ; لأن أبيا وإن كان قد قرأ عليه القرآن أو أقرأه القرآن على ما قد قيل فيما قرأه عليه ، أو فيما أقرأه إياه منه مما يوجب أن بعض القرآن لا كله ، إذ كان ابن مسعود قد حضر عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل صلى الله عليه وسلم ، وهي آخر عرضة عرضها عليه .

[ ص: 257 ]

3625 - وذكر ما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا محمد بن سعيد ابن الأصبهاني ، قال : حدثنا شريك بن عبد الله النخعي ، وأبو معاوية ، ووكيع ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، قال : قال لي عبد الله بن عباس : أي القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد . فقال لي : بل هي الآخرة ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن على جبريل صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة ، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين ، فحضر ذلك عبد الله بن مسعود ، فعلم ما نسخ وما بدل .

فكان معنا في ابن مسعود في حضوره تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن كله على جبريل صلى الله عليه وسلم ، والذي مع أبي عبد الله - يعني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - فيما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أو فيما أقرأه [ ص: 258 ] إياه من القرآن ، ما قد روي أنه بعضه لا كله ، وقد يحتمل لو كان قرأ عليه القرآن فلم يسجد أن يكون لم يسجد وله أن يسجد ، فكيف وإنما ذكر أنه قرأ عليه منه ما لا سجود فيه ، وقد وجدنا عن ابن مسعود السجود في المفصل ، أو فيما روي عنه من السجود فيه .

فذكر ما قد حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا يحيى بن حماد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : رأيت عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يسجدان في : إذا السماء انشقت .

فكان في هذا سجود عبد الله في المفصل ، ولا يجوز أن يسجد في غير موضع سجوده ، وقد يجوز أن يترك السجود في موضع السجود ، فإن كان في حديث أبي في نفي السجود في المفصل لأبي عبد الله دلالة على أن لا سجود فيه ، فما معنا عن ابن مسعود مما فيه إثبات السجود فيه أدل على أنه موضع السجود ; لما قد ذكرناه .

قال أبو جعفر : وما وجدنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجود التلاوة مما قد صح عندنا عنه إلا فيما في المفصل منها لا فيما سواه من [ ص: 259 ] القرآن ، وغنينا أن نأتي بما عن ابن مسعود وابن عمر من سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ; لأن ابن عباس قد قال فيه ما قد ذكرناه عنه في هذا الباب ، والله عز وجل نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية