الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 248 ] 752 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من سروره بقول مجزز المدلجي في زيد بن حارثة وأسامة ابنه لما رأى أقدامهما بادية ووجوههما مغطاة : إن هذه لأقدام بعضها من بعض .

4780 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : دخل مجزز المدلجي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما ، فقال : إن هذه لأقدام بعضها من بعض ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا .

[ ص: 249 ]

4781 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا شعيب بن الليث بن سعد ، عن أبيه ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة أنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه ، فقال : ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ، فقال : إن بعض هذه الأقدام لمن بعض .

فقال قائل : لو لم يكن في القافة إلا ما في هذا الحديث ، لكان فيه ما قد دل أن مع أهلها بها علما هذه معاني ألفاظه ، وإن لم تكن ألفاظنا ألفاظه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنا لم ننكر أن مع أهل القيافة بالقيافة علما ، ولكنه ليس من العلوم التي يقطع بها فيما تذهب أنت إلى أنه يقطع بها فيه من الأنساب المدعاة المختلف فيها ، وإنما هي عندنا كعلم التجار بالسلع التي يتباينون ومن سواهم في معرفة أجناسها ، وفي معرفة بلدانها ، فيقول هذا : هي من بلد كذا ، ويقول هذا : هي من بلد كذا ، فيختلفون في بلدانها التي صنعت فيها ، ويتبين ذوو العلم منهم فيما يقولونه في ذلك بالإضافة فيما يقولونه فيه ، وحتى يقول بعضهم : هي من صنعة فلان ، فيصيب [ ص: 250 ] بذلك حقيقة الأمر في ذلك ، وليس ذلك مما يجب أن يستعمل به حكم ، ولكنه علم يعلمه قوم ، ويجهله آخرون .

فمثل ذلك القيافة التي يتباين الناس فيها ، فيعلمها بعضهم ، ويجهلها بعضهم ويضيفها بعضهم إلى صانع بعينه ، كما يضيف القائف الولد إلى رجل بعينه ، وكما كان لا يجوز أن تحكم بالسلعة المدعاة بشهادة من شهد أنها من عمل فلان - أحد من يدعيها بغير حضور منه ، لوقوعه على عمله إياها ، فمثل ذلك الولد لا يجب أن يحكم به بقول القافة إنه من نطفة ذلك الرجل الذي لم يره قط قبل ذلك الوقت ، ولم يسمع منه إقرارا بما أضافه إليه يكون ما يقوله في ذلك علما يتبين به عن غيره ممن لا علم معه بمثله ، ويجوز لمن يقع في قلبه مثل ذلك ، أو من قد علم حقيقة الأمر فيه قبل ذلك أن يسر به ، ولا يكون مع شيء من ذلك وجوب القضاء ولا وجوب الحكم به ، ولو وجب أن يستعمل ذلك فيما ذكرنا لوجب أن يستعمل في قفو الآثار التي يتبين أهل العلم بها بما يعلمون منها ، فيكون من قال لعبده : إن دخلت موضع كذا اليوم فأنت حر ، فيدعي العبد بعد مضي ذلك اليوم أنه قد كان دخل في ذلك اليوم ، ويكذبه مولاه في ذلك ، ويشهد جماعة من أهل العلم بقفو الآثار على أثر قدم يرى في ذلك المكان أنها قدم ذلك العبد أن يحكموا بقولهم ، وأن يعتقوه على مولاه بذلك ، أو يكون مولاه قال له : إن كنت دخلت هذه الدار قبل قولي هذا فأنت حر ، فيدعي العبد أنه قد كان دخلها قبل ذلك ، وينكر ذلك مولاه ، ويشهد على ذلك جماعة من القافة ، فيشهدون أن هذه قدمه أن يحكم بذلك ، وأن يعتقوه على مولاه . [ ص: 251 ] فمما قد روي مما كان يستعمل فيه قفو الآثار .

4782 - ما قد حدثنا فهد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، قال : حدثنا سماك بن حرب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك ، قال : أتى رسول الله نفر من حي من أحياء بني فلان ، فأسلموا وبايعوه ، وقد وقع الموم وهو البرسام ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا الوجع قد وقع ، فلو أذنت لنا خرجنا إلى الإبل ، فكنا فيها ، فقال لهم : اخرجوا فكونوا فيها ، فخرجوا فقتلوا أحد الراعيين ، وذهبوا بالإبل ، وجاء الآخر قد جرح ، فقال : قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل ، قال : وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين ، فأرسلهم إليهم ، وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم فأتاهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمر أعينهم [ ص: 252 ] قال : وفي إجماعهم أنهم لا يستعملون أقوال القافة فيما ذكرنا ما قد يلزمهم به أن لا يستعملوا أقوالهم فيما قد ذكرناه قبل ذلك في هذا الباب ، فإن قال قائل : قد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استعمل أقوالهم في الأنساب ، وقضى بها فيها .

وذكر .

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن توبة العنبري ، عن الشعبي ، عن ابن عمر أن رجلين اشتركا في طهر امرأة ، فولدت فدعا عمر القافة ، فقالوا : أخذ الشبه منهما جميعا ، فجعله بينهما .

وما .

قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن رجلين اشتركا في طهر امرأة فولدت لهما ولدا ، فارتفعا إلى عمر بن الخطاب ، فدعا لهما ثلاثة من القافة ، فدعا بتراب فوطئ فيه الرجلان والغلام ، ثم قال لأحدهم : انظر ، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر ، ثم قال : أسر أم أعلن ، فقال عمر : بل أسر ، قال : لقد أخذ الشبه منهما جميعا ، فما أدري لأيهما هو ، فأجلسه ، ثم قال للآخر : انظر فنظر ، فاستقبل واستعرض [ ص: 253 ] واستدبر ، ثم قال : أسر أم أعلن ، قال : بل أسر ، قال : لقد أخذ الشبه منهما جميعا ، فما أدري لأيهما هو ، فأجلسه ، ثم أمر الثالث ، فنظر فاستقبل واستعرض واستدبر ، ثم قال : أسر أم أعلن ، قال : أعلن ، قال : لقد أخذ الشبه منهما جميعا ، فما أدري لأيهما هو ، فقال عمر : إنا نقوف الآثار ثلاثا يقولها ، وكان عمر قائفا ، فجعله لهما يرثانه ويرثهما ، فقال لي سعيد : أتدري من عصبته ، قلت : لا ، قال : الباقي منهما .

قال : فهذا عمر قد استعمل في الأنساب أقوال القافة ، فجعل الولد المدعى بين مدعييه جميعا بقولهم ، وذلك منه بحضرة من سواه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم ينكروا ذلك عليه ، ولم يخالفوه فيه ، فدل ذلك على متابعتهم إياه عليه .

[ ص: 254 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه : أن عمر لم يقض في ذلك بأقوال القافة ; لأنهم إنما قالوا في حديث سعيد بن المسيب : إنهم لا يدرون لأيهما هو ، لأخذه الشبه منهما ، فجعل عمر الولد منهما جميعا ، وذلك غير ما قال القافة ، فدل ذلك أن عمر لم يقض بما قد جهله القافة بقول القافة الذي قد جهلوه ، ولكنه قضى في ذلك بغيره ، وهو مدعى مدعييه إياه بأيديهما عليه ، وجواز قول كل واحد منهما فيه ، وأما حديث توبة فجعله بينهما ، فقد يجوز أن يكون كان ذلك منه بعدما قد تقدمه ما في حديث سعيد بن المسيب ، وبعد هذا كله ، فإن المحتج علينا بحديثي عمر هذين لا يجعل الولد ابن رجلين ، فإذا كان لا يجعله ابن رجلين ، وعمر فقد جعله ابنهما ، كان هذا الحديث عليه لا له ، فقال هذا القائل : فإنه قد روي عن عمر في هذه القصة غير هذا القول الذي في هذين الحديثين .

وهو .

ما قد حدثنا بحر بن نصر ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن يحيى بن حاطب ، عن أبيه هكذا ، حدثناه بحر ، وإنما هو يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه ، قال : أتى رجلان إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في غلام من ولادة الجاهلية يقول : هذا هو ابني ، ويقول : هذا هو ابني ، فدعا لهما عمر قائفا من بني المصطلق ، فسأله عن الغلام ، فنظر إليه المصطلقي ، ثم نظر ، ثم قال لعمر : والذي أكرمك إني لأجدهما قد اشتركا فيه جميعا ، فقام إليه عمر فضربه بالدرة حتى اضطجع ، ثم [ ص: 255 ] قال : والله لقد ذهب بك النظر إلى غير مذهب ، ثم دعا أم الغلام ، فسألها فقالت : إن هذا - لأحد الرجلين - قد كان غلب علي الناس حتى ولدت له أولادا ، ثم وقع بي على نحو ما كان يفعل ، فحملت فيما أرى فأصابني هراقة من دم حتى وقع في نفسي أن لا شيء في بطني ، ثم إن هذا الآخر وقع بي ، فوالله ما أدري من أيهما هو ، فقال عمر للغلام : اتبع أيهما شئت ، فاتبع أحدهما ، قال عبد الرحمن بن حاطب : وكأني أنظر إليه متبعا لأحدهما ، فذهب به ، وقال عمر : قاتل الله أخا بني المصطلق .

[ ص: 256 ] قال أبو جعفر : وقد دل ما في آخر هذا الحديث من قول راويه ، قال عبد الرحمن بن حاطب : فكأنني أنظر إليه متبعا لأحدهما على ما قد ذكرنا في إسناده أنه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، عن أبيه ، قال : ففي هذا الحديث ، أن عمر قال للغلام : اتبع أيهما شئت ، وهذا خلاف ما في حديثي ابن عمر وابن المسيب اللذين ذكرت .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله جل وعز وعونه : أن ما في حديثي ابن عمر وابن المسيب في صبي لا يعبر عن نفسه ويد مدعييه عليه ، فرد حكمه إلى ما يقولان فيه ، فجعله إليهما جميعا .

وما في حديث يحيى بن عبد الرحمن في صبي سواه يعبر عن نفسه لو ادعاه أحد الرجلين ، أو رجل هو في يده لا يد عليه غير يده فدفعه عن ذلك لم تقبل دعواه إياه لدفعه إياه عنها ، فلم يقض عمر به لهما لذلك ، ورد الأمر في ذلك إلى ما يقوله الغلام المدعى فيه ، وهكذا نقول نحن في الغلام الذي لا يعبر عن نفسه إذا ادعاه رجلان أيديهما عليه لا يد عليه سوى أيديهما أنه يكون ابنهما جميعا ، وإذا كان يعبر عن نفسه لم يجعل ابنهما جميعا بدعواهما إياه ، وجعل ابن الذي يصدقه منهما على ما يدعيه فيه ، فكنا نحن المتمسكين بما روي عن عمر في هذه الآثار كلها ، وكان هو فيها بخلاف ذلك ، وعاد ما احتج به علينا لقوله فيما ذكرنا حجة لنا عليه فيما خالفنا فيه .

[ ص: 257 ] وفي حديث يحيى بن عبد الرحمن ما قد دل أن عمر لم يستعمل قول القافة لمعنى غير المعنى الذي ذكرنا ، وهو : أن قول القافة لو كان مستعملا في ذلك لكان الولد المدعى لما صدق أحد مدعييه ، يكون قول القافة حجة للآخر أنه ابنه ، ويكون كولد ادعاه رجلان ، فصدق أحدهما وكذب الآخر ، فأقام الآخر بينة أنه ابنه أنه مأخوذ له بها ، وأنها أولى من قول الغلام ، ففي تركهم الأخذ له بقول القافة في ذلك أن لا معنى كان لقول القافة عنده من وجوب حكم به في نسب ، ولا في غيره .

فإن قال قائل : كيف يجوز ما ذكرت ، ويكون قول القافة عنده لا معنى له ، وهو قد دعاهم وسألهم عن ما خوصم إليه فيه ، ولم يكن ذلك إلا وبه حاجة إلى قولهم .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه قد كانت به حاجة إلى قولهم : إن الولد قد يكون من رجلين ، وإن ذلك غير مستحيل ، فيستعمل فيه الواجب استعماله بقول مدعيي الولد ، لا بقول القافة ، أو يكون محالا فلا يتشاغل بذلك ، ولا يقول فيه شيئا ، والدليل على أن ذلك كان كذلك :

أن بكار بن قتيبة حدثنا ، قال : حدثنا سعيد بن عامر ، قال : حدثنا عوف بن أبي جميلة ، عن أبي المهلب : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في رجل ادعاه رجلان ، كلاهما يزعم أنه ابنه ، وذلك في الجاهلية ، فدعا عمر أم الغلام المدعى ، فقال : أذكرك بالذي هداك للإسلام لأيهما هو ؟ قالت : لا ، [ ص: 258 ] والذي هداني للإسلام لا أدري لأيهما هو ، أتاني هذا أول الليل ، وأتاني هذا آخر الليل ، فما أدري لأيهما هو ، فدعا عمر من القافة بأربعة ودعا ببطحاء فنثرها ، فأمر الرجلين المدعيين فوطئ كل واحد منهما بقدم وأمر المدعى ، فوطئ بقدم ، ثم أراه القافة ، فقال : انظروا فإذا أثبتم فلا تكلموا حتى أسألكم ، فنظر القافة فقالوا : قد أثبتنا ، ثم فرق بينهم ، ثم سألهم رجلا رجلا ، فتعاقدوا ، يعني : فتتابعوا أربعتهم ، كلهم يشهد أن هذا لمن هذين ، فقال عمر : يا عجبا لما يقول هؤلاء ، قد كنت أعلم أن الكلبة تلقح بالكلاب ذوات العدد ، ولم أكن أشعر أن النساء يفعلن ذلك قبل هذا ، إني لأرى ما ترون ، اذهب فإنهما أبواك .

[ ص: 259 ] فدل ما ذكرنا على أن عمر - رضي الله عنه - إنما احتاج إلى القافة لتنتفي الإحالة عن الدعوى ، لا لما سوى ذلك ، والدليل على أن مذهب عمر كان ألا يقضى بقول القافة في نسب ولا في غيره .

4783 - ما قد حدثنا المزني ، قال : حدثنا الشافعي . وما قد حدثنا علي بن شيبة ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، قال المزني : عن سفيان بن عيينة ، وقال علي : قال : أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : أرسل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى شيخ من بني زهرة من أهل دارنا ، فذهبت مع الشيخ إلى عمر وهو في الحجر ، فسأله [ ص: 260 ] عن ولاد من ولاد الجاهلية ، قال : وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها أو مات عنها ، نكحت بغير عدة ، فقال الرجل : أما النطفة ، فمن فلان ، وأما الولد فعلى فراش فلان ، فقال عمر : صدق ، ولكن قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش .

قال أبو جعفر : أفلا ترى أن عمر لم يلتفت إلى ما قال ذلك الرجل المسؤول في النطفة ، وهي ما سئل به القافة على ما يقولونه في ذلك ، ورد الحكم إلى ما يخالفه مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به ، وما يؤكد ذلك أيضا : أن أهل الإسلام لم يختلفوا في الرجل ينفي ولد زوجته التي قد ولدته على فراشه ، ويقول : ليس هو مني ، وتقول أمه : هو منه ، أنه يلاعن بينهما ، وينفى منه ، ويرد إلى أمه ، وأن أمه لو جاءت لجماعة من القافة يشهدون لها بتصديقها ، وأن الولد منه ، أن قولهم في ذلك كلا قول ، وأن حكم اللعان الذي يكون نفي نسبه به منه قائما على حاله ، وأن قول القافة في ذلك ليس كشهادة بينة عادلة عليه أنه ابنه ، هذه يقضى بها ، ولا يستعمل معها اللعان .

وفي ذلك ما قد دل أن أقوال القافة فيما ذكرنا ليس بحجة ، وإنما كانت أقوال القافة تستعمل في الجاهلية في مثل هذا المعنى في ما [ ص: 261 ] قد نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد الأحكام إلى خلافه مما أهل الإسلام عليه .

4784 - مما قد حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا أصبغ بن الفرج ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير : أن عائشة أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل ابنته فيصدقها ، ثم ينكحها .

ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان ، فاستبضعي منه ، ويعتزلها زوجها ، ولا يمسها أبدا حتى يبين حملها من ذلك الرجل ، الذي يستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب ، وإنما يصنع ذلك رغبة في نجابة الولد ، وكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .

ونكاح آخر : يجتمع الرهط دون العشرة يدخلون على المرأة ، فكلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ، ومرت ليال بعد أن تضع حملها ، أرسلت إليهم ، فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمرها ، وقد ولدت ، وهو ولدك يا فلان ، وتسمي من أحبت منهم باسمه ، فيلحق به ولدها ، لا يستطيع أن يمتنع .

ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة ، فلا تمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا ، كن ينصبن على أبوابهن رايات ، فمن أرادهن دخل عليهن ، فإذا حملت إحداهن ، ووضعت حملها ، جمعوا لها [ ص: 262 ] ودعوا لهم القافة ، فألحقوا ولدها بالذي يرون ، ودعي ابنه ، لا يمتنع من ذلك ، فلما بعث الله - عز وجل - محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم
.

قال : ففي هذا الحديث نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قول القافة فيما كان يستعمل فيه مما ذكرناه في هذا الحديث ، ورد أحكام الأنساب إلى الفرش لا إلى ما سواها .

وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب ، فأما أبو حنيفة والثوري وسائر أهل الكوفة ، فلا يستعملون للقافة قولا في شيء من الأشياء .

وأما مالك فقد كان يستعمل أقوال القافة في الإماء ، ولا يستعمله في الحرائر ، وفي نفيه استعماله في الحرائر ما يجب به نفي استعماله في الإماء . وأما الشافعي : فقد كان يستعمله في الحرائر ، وفي الإماء جميعا ، وفيما تقدم ذكرنا له في هذا الباب مما قد وضح به الأمر في أقوال القافة بما قد ذكرناه فيه مما يوجب نفيه في الأشياء كلها ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية